ظلت
أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم- محل التسليم والقبول بدءاً من عهد الصحابة رضي
الله عنهم والتابعين وسلف الأمة الأخيار ، من غير تفريق بين المتواتر والآحاد،
وبين ما يتعلق بأمور المعتقد وما يتعلق بالأحكام العملية ، فكان طريق العلم والعمل
بها هو الخبر الصادق، وكان الشرط الوحيد في قبول الحديث هو الصحة ، سواء قل رواته
أم كثُروا ، ولم يكونوا يطلبون أمرًا زائدًا على الصحة، حتى ظهرت بدع الاعتقاد ،
وتأثر فئام من الناس بالمنهج الفلسفي الكلامي، فأعملوا عقولهم وآراءهم وقدموها على
الوحي ، وعلى كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام ، تحت دعوى تقديس الوحيين
، وتعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به .
ولما
كانت نصوص الكتاب والسنة صريحة في إبطال ما أحدثوه ، ورد ما ابتدعوه ، احتالوا في
ردها والتلاعب بها من أجل أن تسلم لهم عقيدتهم ، فأتوا إلى نصوص القرآن الكريم
فأولوها وصرفوها عن ظاهرها بدعوى التنزيه ، ثم جاؤوا إلى نصوص السنة فمنعوا
الاستدلال بها في أمور الاعتقاد ، بدعوى أنها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين والقطع ،
والعقائد لا تبنى إلا على اليقين ، والله جل وعلا قد ذم في كتابه الآخذين بالظن والمتبعين
له .
وهذا
القول – وهو إيجاب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام دون العقائد - قول مبتدع حادث لا
أصل له في الشريعة ، لم يعرف إلا عن المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله
وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم- ، ولم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وأهل السنة
والحديث يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الاعتقاد والأحكام من غير تفريق بينهما ،
ولم ينقل عن أحد منهم أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله
وأسمائه وصفاته .
والأدلة
من الكتاب والسنة جاءت عامة في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من
عصيانه ومخالفة أمره ، من غير تفريق بين أمور العقيدة وأمور الأحكام كقوله تعالى :
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
} ( الأحزاب 36) ، فقوله " أمراً " عام يشمل كل أمر سواء أكان في
العقيدة أم الأحكام ، وقوله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
(الحشر 7) ، وقوله : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم
عذاب أليم }(سورة النور 63 ) ، فتخصيص هذه الأدلة بالأحكام دون العقائد تحكم لا
دليل عليه .
وكان
النبي - صلى الله عليه وسلم- يبعث عدداً من أصحابه إلى أطراف البلاد ليعلموا الناس
أصول الدين وفروعه، وأمور العقائد والأحكام ، فأرسل علياً و معاذاً و أبا موسى
وغيرهم من الصحابة ، بل قال لمعاذ كما في الحديث المتفق عليه : ( إنك تأتي قوماً
من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) وفي رواية :
( إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات
في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم ) ، فأمره بتقديم الدعوة إلى العقيدة والتوحيد
على أركان الإسلام الأخرى ، ولم ينقل أن أحداً من أولئك الرسل اقتصر على تبليغ
الفروع والأحكام العملية فقط ، مما يؤكد ثبوت أمور العقيدة بخبر الواحد وقيام
الحجة به .
وكذلك
كانت رسائله -صلى الله عليه وسلم- وكتبه التي كان يبعث بها إلى الملوك يدعوهم فيها
إلى الإسلام وعبادة الله وحده ، فيحصل بها التبليغ ، وتقوم بها الحجة ، مع أن
الرسل كانوا آحاداً ، ولو كان خبر الواحد لا يقبل في العقائد للزمه أن يبعث إلى كل
قطر جماعة يبلغون حد التواتر ، ليحصل اليقين بخبرهم .
كما
انعقد الإجماع على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقائد والأحكام على السواء ، قال
الإمام الشافعي في كتابه " الرسالة " (1/457) : " ولو جاز لأحد من
الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد
والانتهاء إليه ، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي ، ولكن
أقول : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ، بما وصفت من
أن ذلك موجود على كلهم " أهـ .
وقال
الإمام ابن عبد البر في كتابه " التمهيد " (1/8) - وهو يتكلم عن خبر
الآحاد وموقف العلماء منه - : " وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات
، ويعادي ويوالي عليها ، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده ، على ذلك جميع أهل السنة
" .
وقال
الإمام ابن القيم ( مختصر الصواعق المرسلة 775) : " وأما المقام الثامن: وهو
انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث ، وإثبات صفات الرب تعالى
بها ، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هم
الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ، ولم ينكرها أحد منهم على
من رواها ، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين ، من أولهم إلى آخرهم " .
ولهذا
أثبتوها في مصنفاتهم وكتبهم معتقدين موجبها على ما يليق بجلال الله تعالى ، ومن
نظر في كتب المحدثين الأعلام – كالبخاري و مسلم و أبي داود و أحمد و ابن خزيمة -
علم يقيناً أن مذهبهم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد .
والقول
بأن هذه الأحاديث ليست حجة في العقائد يستلزم تفاوت المسلمين فيما يجب عليهم
اعتقاده ، مع بلوغ الخبر إليهم جميعاً ، فالصحابي الذي سمع من النبي - صلى الله
عليه وسلم- حديثاً يتضمن عقيدة مَّا ، كحديث النزول مثلاً ، هذا الصحابي هو الذي
يجب عليه أن يعتقد ذلك لأن الخبر بالنسبة إليه يقين ، وأما الذي تلقى الحديث عنه
من صحابي آخر أو تابعي فهذا لا يجب عليه أن يعتقد موجبه ، حتى وإن بلغته الحجة
وصحت عنده ، لأنها إنما جاءته من طريق آحادي ، وهو كلام باطل قطعاً لأن الله جل
وعلا يقول: { لأنذركم به ومن بلغ }( الأنعام 19) ، ويقول - صلى الله عليه وسلم- :
( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع ) رواه
الترمذي وغيره .
وهذا
التفريق بين العقائد والأحكام إنما بني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل ،
وأن الأحكام العملية لا تقترن معها عقيدة ، وهو تفريق باطل من أساسه ، قال الإمام
ابن القيم رحمه الله : " فإن المطلوب من العمليات أمران : العلم والعمل ،
والمطلوب من العلميات العلم والعمل أيضا وهو حب القلب وبغضه ، وحبه للحق الذي دلت
عليه وتضمنته وبغضه للباطل الذي يخالفها ، فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل
أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع ، فكل مسألة علمية فإنه
يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه ، بل هو أصل العمل وهذا مما غفل عنه كثير من
المتكلمين في مسائل الإيمان " ....... إلى أن قال : " فالمسائل
العلمية عملية والمسائل العملية علمية ، فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في
العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل " أهـ
.
ولذا
فإن رد خبر الآحاد في العقائد يستلزم تعطيل العمل به في الأحكام العملية أيضاً ،
ويؤول إلى رد السنة كلها ، خصوصاً ونحن نعلم أن كثيراً من أحاديث الأحكام العملية
تتضمن أموراً غيبية اعتقادية كقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( إذا تشهد أحدكم
فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ،
ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال ) رواه مسلم .
قال
الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحة : " فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد
" ، إلى أن قال : " " وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد
إلى ترك السنن كلها ، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد (الإحسان في تقريب صحيح
ابن حبان (1/156) .
كما
أن القول بأن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة ، هو قول في حد ذاته عقيدة استلزمت رد
مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وبالتالي فإن
القائل به مطالب بأن يأتي بالدليل القاطع المتواتر على صحته عنده بما لا يدع
مجالاً للشك ، وإلا فهو متناقض حيث قد وقع فيما رمى به غيره .
وأما
الاستدلال بأن الله جل وعلا قد ذم في كتابه الآخذين بالظن والمتبعين له ، فجوابه
أن الظن الذي عابه الله على المشركين بقوله : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون } ( الأنعام 116) ، وبقوله : {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } (
النجم 23) ، إنما هو الظن المرجوح المبني على الخرص والتخمين واتباع الهوى ومخالفة
الشرع ، وهذا لا يؤخذ به في الأحكام فكيف يؤخذ به في العقائد ، وأما الظن الراجح
المبني على الأدلة والقرائن الصحيحة فهذا غير معيب في كتاب الله جل وعلا ، بل قد
يصل الظن إلى درجة قريبة من اليقين ، ولذلك ورد في القرآن التعبير عن العلم بالظن
في قوله تعالى : { إني ظننت أني ملاق حسابيه }(الحاقة 20) ، وقوله : {وظنوا أن لا
ملجأ من الله إلا إليه } (التوبة 118 ) .
وخلاصة
القول فإن أدلة الكتاب والسنة ، وإجماع الصحابة وسلف الأمة ، يدل دلالة قاطعة على
وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة ، سواء أكان في الأمور
الاعتقادية أم الأمور العملية ، والتفريق بينهما ، بدعة لا يعرفها السلف ، وفي ذلك
ما يكفى ويغني طالب الحق والهدى ، فعلى العبد أن يسلِّم لأخبار رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - الثابتة ، وألا يتحكم في ردها أو مخالفتها بالحجج الواهية ،
والعقول القاصرة : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم } ( النور 63) .
- موقع
الشبكة الإسلامية.
طباعة
ارسال