حث الله تعالى عباده على
تعلم العلم ، ومدح العلماء وأشاد بذكرهم ، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته
على توحيده سبحانه ، فقال: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا
العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } ( آل عمران 18) ، وحصر خشيته
فيهم فقال جل وعلا : { إنما يخشى الله من عباده العلماء} ( فاطر 28) ، ونفى
المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال :{ قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون } ( الزمر 9) ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العلماء هم
ورثة الأنبياء ، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم ، إلى غير ذلك من النصوص
التي تدل على فضل العلم والعلماء .
وعلم الحديث من أجل
العلوم وأشرفها وأعظمها عند الله قدراً ، فبه يعرف المراد من كلام الله عز وجل ،
وبه يطلع العبد على أحوال نبيه - صلى الله عليه وسلم - وشمائله ، وناهيك بعلمٍ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بدايته ، وإليه مستندُه وغايته ، وحسب الراوي
للحديث شرفًا وفضلاً ، وجلالة ونُبلاً، أن يكون في سلسلة آخِرُها الرسول عليه
الصلاة والسلام ، ولذلك قال بعض أهل العلم : " أشدُّ البواعث وأقوى الدَّواعي
لي على تحصيل علم الحديث لفظ "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " .
فمن تحمل الحديث واشتغل
بتعلمه وتعليمه ، كان له الحظ الأوفر من هذا المدح للعلماء ، وكفى بذلك شرفاً
للحديث وحملته ، بل إن صرف العمر في تعلم الحديث ونشره أفضل من الاشتغال بنوافل
القربات ، وما ذاك إلا لما فيه من بيان القرآن ، وإحياء سنة النبي - صلى الله عليه
وسلم - ، والتأسي به ، ولو لم يحصل لأهله من الفضل إلا كثرة الصلاة على النبي -
صلى الله عليه وسلم - التي ورد فيها ما ورد من الفضل الجزيل ، كقوله عليه الصلاة
والسلام :( أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة) رواهالترمذي وحسنه ،
وأهل الحديث هم أكثر الأمة صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قيل في قوله تعالى:
{يوم ندعو كل أناس بإمامهم } (الإسراء 71) : " ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من
هذه ، لأنه لا إمام لهم غيره - صلى الله عليه وسلم- " .
ويكفي أهلَ الحديث شرفاً وفضلاً دخولهم في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين
قال - كما في السنن - : ( نضَّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه ، فرب
حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه ) ، قال سفيان بن عُيَينة:
"ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة ، لهذا الحديث " .
كما أن الاشتغال بعلم الحديث تبليغ عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وامتثال
لأمره ، حين قال : (بلغوا عني ولو آية) رواه أحمد وغيره .
وقد بشَّر - صلى الله
عليه وسلم - بحفظ هذا العلم ، وأن الله عز وجل يهيء له في كلّ عصر خلفًا من
العُدُول ، يحمونه وينفون عنه التحريف والتبديل ، حماية له من الضياع ، وكفى بذلك
شرفاً وفضلاً ، فقال في الحديث المشهور : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون
عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين) رواه ابن عبدالبر وغيره
وحسنه ، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول : " لولا أهل المحابر ، لخطبت
الزنادقةُ على المنابر" .
ومما يدل أيضاً على شرف
الحديث وأهله ، ما ورد عن السلف والأئمة من تعظيم للسنة ، وإجلالهم لحديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول عمرو بن ميمون : " ما أخطأني ابن مسعود
عشية خميس إلا أتيته فيه ، قال : فما سمعته يقول بشيء قط قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فلما كان ذات عشية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
فنكس ، قال : فنظرت إليه فهو قائم محللة أزرار قميصه ، قد اغرورقت عيناه ، وانتفخت
أوداجه " رواهابن ماجة ، وكان ابن سيرين إذا ذُكر عنده حديث رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وهو يضحك خَشَع ، واشتهر عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك أَكثر
من غيره ، فكان إذا أَراد الحديث اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه وجلس على منصة
خاشعاً ، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من الحديث ، ويقول: أحب أن أعظم حديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يكره أَن يحدِّث وهو قائم أو مستعجل ، وما ذاك
إلا تعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإجلالاً لحديثه وكلامه .
وهذا التعظيم للحديث ،
والحرص على نقله ، والتأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الدقيق والجليل ، من أعظم
علامات محبته ، والمرء مع من أحب يوم القيامة ، وقد جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي
الله عنه قال : (جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول
الله ، متى الساعة ؟ قال : وما أعددت للساعة ؟ قال : حب الله ورسوله ، قال : فإنك
مع من أحببت ) ، قال أنس :" فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - فإنك مع من أحببت ، قال أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر
فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم " ، وأهل الحديث هم أولى الناس
بهذا الوصف .
ولذلك قال الشافعي : " أهلُ الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم ، وكان
يقول : "إذا رأيتُ صاحبَ حديثٍ فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم " .
أهل
الحديث همُ أهل النبيِّ وإن * لم يصحبوا نفْسه
أنفاسَه صحِبوا
فعلم بذلك شرف أهل الحديث ، وعلو مكانتهم في الدين ، وأن الاشتغال بالحديث من أعظم
الطاعات وأجل القربات ، فينبغي على المسلم أن يعتني بحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم حفظاً وفهماً، وتعلماً وتعليماً .
طباعة
ارسال