قد بين ذلك أبو إسحاق الشَّاطبي المتوفى سنة (790هـ) في كتابه «الموافقات» (ص13-30ج4) ونحن نجمل ما قاله: «من النَّاس من يجعل طريقة رجوعها إليه نصَّ الكتاب على الاتساء بالرسول صلى الله عليه وسلم والرضا بقضائه وطاعنه فيما أمر ونهى، ومن هذا القبيل ما روي عن عبد الرحمن بن يَزيْد، أنه رأى مُحْرِماً عليه ثيابه فنهاه فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [سورة الحشر:7].
وما روي عن طاووس أنه كان يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس: اتركهما، فقال: إنما نهي عنهما أن تتخذا سنّة، فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب:36]. ومنهم من يجعل طريقة الرجوع أن الكتاب مجملٌ والسُّنَّة مفصلةٌ له لقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل:43].
فالقرآن أمرَ بالصلاة وبيّن أنها مؤقتة، فبيّنت السُّنَّة أوقاتها وعددها وعدد ركعات كلٍّ منها وصفتها وما يبطلها.
وأمر «القرآن» بالزَّكاة، وبيّنت السُّنَّة أوقاتها، ونُصُبَها، ومقاديرها، والأموال التي تخرج منها، إلخ..
وقد قيل لمطرِّف بن عبد الله: لا تحدّثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: والله لا نزيد بالقرآن بدلاً، ولكن نريدُ من هو أعلم بالقرآن منّا- يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
وهناك طريقةٌ ثالثة، وهي النظر إلى المعاني الكلية التي يرجع إليها التشريع القرآني، وأن ما في السُّنَّة من الأحكام لا يعدو هذه المعاني، وذلك أن «القرآن» جاء معرِّفاً لطريق السعادة في الدَّارين، نادبنا إلى سلوكه، ولطريق الشقاوة فيهما، محذِّرنا من اقتحامه، والسعادة في الدَّارين إنما تتوفر للمرء بثلاثة أشياء:
(1) بالمحافظة على الدِّين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وهي الضروريات الخمس.
(2) وبتشريع ما يؤدي إلى التوسعة ورفع الضيق والحرج، كإباحة الفطر في السفر والمرض، وذلك قسم الحاجيات.
(3) وبالتحلّي بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي المعروفة بالتحسينيات.
فالكتاب أتى بهذه الأمور الثلاثة أصولاً يرجع إليها، والسُّنَّة أتت بها تفريعاً على الكتاب وتفصيلاً لما ورد فيه منها، فليس في السُّنَّة إذا حللتها ما لا يرجع إلى هذه العناصر الثلاثة، بالكتاب والسُّنَّة بعد التحليل يرجعان إلى أصول واحدة
ومن طرق الرجوع أنه قد ينص «القرآن» على الحكم في طرفين ويكون بينهما ما فيه شبه بكل منهما، فيبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه أنه لاحق بأحد الطرفين، أو له حكم خاص يناسب الشبهين، وقد ينص في «القرآن» على حكم شيء لعلة فيه فَيُلْحِقُ به الرسول صلى الله عليه وسلم ما اجتمع معه في العلة بطريق القياس.
فمن قبيل الأول:
(1) أن الله تعالى أحلّ النكاح وحرّم السِّفاح، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع، فإنه ليس بنكاحٍ محضٍ ولا سفاحٍ محض، فجاء في السُّنَّة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، فإن كان دخل بها فلها المهر بما استحلّ منها».
(2) وأن الله أحلّ صيد البحر فيما أحلّ من الطيبات، وحرّم الميتة فيما حرّم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها، فقال صلى الله عليه وسلم: «هو الطَّهورُ ماؤه، الحلُّ مَيْتَتُهُ».
(3) وأن الله حرّم الميتة وأحلّ المذكَّاةَ، فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتاً بين الطرفين فاحتملهما، فجاء في الحديث: «ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أُمِّهِ» ترجيحاً لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.
(4) وأنّ الله تعالى قال: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ [سورة النساء:11] فبقيت البنتان مسكوتاً عنهما فألحقتهما السُّنَّةُ بما فوق الثنتين. فالنص على حكم الطرفين في هذه الأمثلة وما شابهها بمثابة النص على ما دار بينهما.
ومن قبيل الثاني:
(1) أن الله عرَّ وجلّ حرّم الرِّبا وربا الجاهلية الذي قالوا فيه ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [سورة البقرة:275] هو فسخ الدَّين في الدَّين يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة:279]
ولما كان تحريم الربِّا إنما هو من أجل الزيادة في أحد العوضين بلا مقابل، ألحقت السُّنَّة به كل ما فيه مثل هذه الزيادة، فقال صلى الله عليه وسلم: «الذَّهب بالذهب، والفضَّة بالفضة، والبُرُّ بالبر، والشعيرُ بالشعير، والتمرُ بالتمرِ، والملحُ بالملح مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد».
(2) أن الله تعالى حرّم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين، وكان هذا التحريم لأن الجمع فيه قطع صلات الرَّحم، فألحق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لمكان العلة.
وهناك طريقة خامسة في بيان الرجوع، وهو أن كل ما في السُّنَّة من المعاني والأحكام التفصيلية موجود في تفصيلات «القرآن» لمن فقهه وتدبره، وإن كان في السُّنَّة أبين وأوضح.
ومن أمثلة ذلك:
(1) حديث عبد الله بن عمر لما طلق زوجه وهي حائض فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: «مُرْهُ فليُراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق، فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلّق لها النساء». يعني بذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾[سورة الطلاق:1].
(2) حديث فاطمة بنت قيس أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما طلقها زوجها ألبتة مع أن المبتوتة لها السكنى دون النفقة ولكن حرمها منها الرسول صلى الله عليه وسلم لما بذت على أهلها بلسانها، فكان ذلك بياناً للفاحشة المبينة في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ [سورة الطلاق:4].
(3) حديث سُبَيْعة الأسلمية إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فأخبرها صلى الله عليه وسلم أن قد حلّت فبيَّن الحديث أن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [سورة البقرة:234] خاصٌّ بغير الحامل وأن قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [سورة الطلاق:4] عام في المطلقات وغيرهنّ.
قال أبو إسحاق: وهذا النمط في السُّنَّة كثيرٌ، ولكن «القرآن» لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب أو نحوها، وأول شاهد في هذا، الصلاة، والحج، والزكاة، والحيض، والنفاس، إلخ. فالملتزم لهذا لا يفي بما ادّعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم، ولقد رامَ بعض النَّاس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه فلم يوفِ إلا على التكلّف المذكور والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نصٌ ولا إشارةٌ إلى خصومات ما ورد في السُّنَّة، فكان ذلك نازلاً بقصده الذي قصده، وهذا الرَّجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرجها مسلم في «صحيحه» دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه، وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث.
ذلك ملخصُ الطرق التي ذكرها أبو إسحاق في كتابه لبيان أن السُّنَّة ترجع إلى الكتاب، وقد ذكر بعد ذلك أن هذا الرجوع إنما هو بالنسبة للأمر والنهي والإذن، وما يقتضي ذلك، أي بالنسبة لما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف، وأما ما جاء فيها من الأخبار عمّا كان ويكون مما لا تعلق له بأمرٍ أو نهي أو إذنٍ، فقد يأتي في السُّنَّة مفسراً لما في «القرآن» وقد لا يكون له أصلٌ قرآنيٌّ كقصص بعض الأنبياء والصالحين، لأنه أمر زائد على مواقع التكليف، وإنما أنزل «القرآن» لذلك ولكن في هذا النوع من الاعتبار نحو في القصص القرآني وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب فهو خادم للأمر والنهي ومعدود في المكمِّلات لضرورة التشريع، فلم يخرج بالكلية عمّا تعلّق بالتكليف.
وجملة القول: أن «القرآن» الذي هجره المسلمون أصل هذا الدِّين، وأن ما في السُّنَّة يرجع إلى نصوصه وإشاراته، أو عموماته، أو قواعده الكلية التي هي أساس ما فيه من الأحكام الجزئية، ولو أن المسلمين أنفقوا من أوقاتهم في تدبر «القرآن» ما ينفقونه في تعرّف آراء النَّاس للمسوا بأيديهم هذه الحقيقة، وهي أن في «القرآن» تبياناً لكل شيءٍ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
- كتاب تاريخ فنون الحديث: الشيخ محمد عبدالعزيز الخولي.
- كتاب الموافقات في أصول الفقه: أبو إسحاق الشاطبي.
طباعة
ارسال