كانت معابد وصوامع اليهود، وكنائس النصارى قد شغلت جانباً من مجتمع تلك الأمم، وكانت رسالتها قائمة تؤتي أكلها في المجتمع إلى أن طالها يد الطغيان وقبلها ضلال العباد والرهبان وهو ما أدى إلى انقلاب تلك الدور من منابع للخير تنير للناس الطريق إلى أوكار لأهل الفساد وموطن لأهل الأهواء.
على إثر ذلك أرسل الله تعالى نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام بخاتم الرسالات وأكمل الديانات وأيسر التشريعات، أرسله بنور الإسلام والإيمان، الذي أتى على جميع الأديان فكان صالحاً لكل زمان ومكان، ولا يقبل عند الله سواه من سائر الأديان.
شع نور الإسلام في مكة فلم يكن للمسلمين إذ ذاك مقر صريح للعبادة بسبب ما كان من طغيان كفار قريش وجبروتهم، فكانت هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لينفلق بذلك فجر الإسلام، فما إن وصل إليها ونزل بقباء إلا وأمر ببناء مسجد قباء لتنطلق من حينه رسالة الإسلام فكان أول مسجد بني في الإسلام، ومن هنا جاءت أهمية المسجد كيف لا وكان بناؤه من أولويات اهتماماته عليه الصلاة والسلام.
المسجد باعتباره مركزاً أساسياً للمجتمع الإسلامي لا يتميز مجتمع الإسلام إلا به، كان من الضروري بمكان إبراز أهمية المسجد وتسليط الضوء على دوره في المجتمع الإسلامي، والموضوع في ذلك واسع ومتشعب، لذا سنركز في بياننا حول ذلك على نقاط بارزة في إشارات ومفاتيح لمضامين واسعة، يستفيد منها المسلم وتكون له كمصباح ينير له ما للمسجد من مكانة ودور في الإسلام.
ولعل أهمية المسجد تكمن في الأمور التالية:
1- تنويه الله تعالى في كتابه وبيانه لأهميته وعظم مكانته وجزيل ثواب من اشتغل بعمارته قال تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور36-37)، وقوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة 108-109).
2- أن المساجد أضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم؛ لأن فيها تقام العبادات التي يخضع بها العباد له سبحانه وتعالى، وفيها تتلى آياته وفيها يُذكر الناس بمنهج الله والطرق الموصلة إليه قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن 18)، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة 18).
3- ما جاء في صحيح الأخبار عن النبي المختار r ما يدل على أهمية المسجد في المجتمع وعظم مكانته عند الله تعالى كما في قوله عليه الصلاة والسلام "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" [أخرجه مسلم].
وكذا ما ورد في فضل بنائها حيث قال عليه الصلاة والسلام "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله به مثله بيتاً في الجنة" [رواه الخمسة إلا أبا داود].
ولعل من أعظم الفضائل ومعالم الأهمية ما ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) [متفق عليه] كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومن أهميتها ما ورد في أجر المكوث فيها فقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ((إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث. تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه)) [متفق عليه].
هذا بيان من جانب ذكر أهمية المسجد في المجتمع، وأما دوره في المجتمع والتأثير الذي يمكن أن يظهره في المجتمع فيمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:
1. الإمامة وإقامة الصلوات
أول دور وأول رسالة للمسجد إقامة الصلوات، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ومن هنا تأتي عظمة المساجد حيث إنها اختصت بقيام الركن الثاني الأعظم والأكثر أهمية بعد التوحيد وهو الركن الذي يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات خلافاً لسائر الأركان التي قد تكون في العام أو قد تكون في العمر كما في الحج .
وكذلك الصلوات يحصل بها كثير من الأمور والمنافع من تذكير بكتاب الله - عز وجل - وتعليم للانتظام والنظام في حياة الأمة، وإحياء لمشاعر الوحدة بين أبناء الأمة، وغير ذلك من المنافع.
2- الدعوة والتعليم
لاشك أننا نرى في عصرنا الحاضر الأعداد الهائلة التي تخرجها الجامعات والمعاهد من طلبة العلم والدعاة، لكن لو رجعنا بذاكرتنا واطلعنا على تاريخ الأمة الإسلامية وتصفحنا سير أولئك العلماء الذين لا يزال علمهم وميراثهم العلمي والدعوي يذكر إلى يومنا لوجدنا أن تخرجهم كان عن طريق المساجد والجوامع.
إذاً نعلم بذلك يقيناً أن المسجد هو المعهد الأول والجامعة الأولى لتخريج الدعاة وطلبة العلم، انظر إلى مسجد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد كان أول مدرسة وأول جامعة وأول محضن تربوي خرّج لنا ثلة مباركة من الصحابة الكرام والتابعين ومن بعدهم ممن انتشروا في المعمورة وبلغ علمهم وأثرهم الآفاق.
واستمر في قراءة التاريخ تجد جامع الأزهر بمصر، وجامع الزيتونة بتونس، والجامع الأموي بدمشق وغيرها، كلها كانت محاضن للدعاة والمصلحين.
ونحن في هذا الزمن ما زلنا نرى بعض الدول والحكومات الإسلامية – والحمد لله – تولي المسجد كبير اهتمام وتعتني به وتعتمد للتدريس في المساجد علماء وأساتذة بتكليف منها، في حين أننا نجد في مقابل ذلك أيضاً أن هذا الدور مهمل في العديد من الدول الإسلامية، بل الأدهى من ذلك والأمرّ - وللأسف - لا تكاد تجد في عدد آخر من تلك الدول من يقيم في المسجد الدور الأهم والمعلم الأبرز لإقامة المساجد ألا وهي إقامة الصلاة فكيف بما عداه.
فعلى جميع المسلمين تفهم دور المسجد والتعمق فيه والاطلاع على الكتب والنشرات التي تحدثت عن مكانة المسجد ودوره في الإسلام، ليستفيدوا من ذلك ويعيدوا للمساجد رونقها ودورها المفقود، فلسنا هنا إلا بمنزلة من يضيء على بدايات الطريق وعلى المهتم والحريص السير في خضمه والتطبيق على أرض الواقع.
3- الدور الاجتماعي للمسجد
من أساسيات أدوار المسجد في المجتمع الإسلامي هو الدور الاجتماعي إذ كان المسجد ملتقى لأهل الحي يجتمعون فيه في اليوم خمس مرات، فلابد للمساجد أن تهتم بهؤلاء وأن تضع لهم من الأنشطة والبرامج ما يعمق بين أفراد المجتمع أواصر المحبة والأخوة، ومن تلك الأنشطة ما يلي:
* التزاور والتفقد
وذلك بأن يكون بين أهل المسجد وأهل الحي تزاور وتفقد، يعودون مرضاهم ويشيعون جنائزهم ويتفقدون من حلت به مصيبة ويشاركون من كانت عندهم فرحة، كل ذلك دوره ورسالته جزء من مهمة إمام المسجد حتى ينشط هذا الجانب.
* التشاور
ومن ذلك أيضا التشاور ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستشير أصحابه، وكان كثير من صور التشاور تتم في المسجد، ولا شك أن التشاور خاصة في الأمور المشكلة والمعضلة التي تمر بالناس في مسجدهم أو في حيهم لا شك أنه من أعظم ما يعود بالنفع على الناس حتى يشعر المسلمون أن المسجد ليس للصلاة فقط وإنما المسجد يحل له مشكلته مع ابنه ويحلّ له مشكلته مع المدرسة ويحل له مشكلته مع جاره ويتشاور الناس لما ينفعهم، ويأتمرون جميعا ليكونوا صفا واحدا أمام ما يضرهم، ويلتقون جميعا ليحث بعضهم بعضا على ما ينفعهم، فهذه المشاورة لا شك أنها تجعل المسجد كالقلب النابض وكالجسم المتحرك المعمور بالحيوية.
* التكافل
وقد طبّق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مسجده كما نعلم من حديث القوم الذين قدموا من مضر وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم تأثر من حالهم وشدة فقرهم ودعا الصحابة في المسجد لأن يتكافلوا معهم ويتبرعوا لهم، ثم فرح النبي - عليه الصلاة والسلام - بما رأى من صورة التكافل والتعاون.
هذا غيض من فيض وقطرة من بحر، وينبغي للمسلم الغيور على دينه ومآثره أن يهتم بمثل هذا الموضوع وأن يشبعه بحثاً ليصل إلى التطبيق العملي خصوصاً إذا علمنا أن المسجد هو المركز الرئيسي لاجتماع المسلمين إذ تذوب فيه كل الفوارق البشرية التي يتميز بها البعض عن الآخر خارج المسجد، فالمهم هو أن نرى لما نكتب وندعو إليه أثراً ملموساً كي يحيى لديننا أثره الذي أضحى يتقلص يوماً بعد يوم،والله المستعان.
طباعة
ارسال