عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنَّ الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
فكم أخا الإسلام
منتفعاً بهذه الوصية التي ينهانا فيها الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه عن الحلف بالآباء- أو بأي مخلوق آخر- كما كانوا يفعلون في الجاهلية..لأن النهي بهذا التعبير- الذي جاء- في نص الوصية يقتضي حرمة الشيء المنهي عنه..
(وإذا) كان النبي صلى اله عليه وسلم قد قال بعد ذلك في نص الوصية: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» أو «ليذر» كما في رواية أخرى:
فإن هذا معناه أننا لا بد وأن نترك الحلف بغير الله لأن هذا لا يجوز..ولا يجوز الحلف إلا بأسمائه تعالى وصفاته..(وقد) قال في الفتح: (قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله تعالى، أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده).
(وفي) رواية لابن ماجه من حديث بُريدة قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه، فقال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصْدُق، ومن حُلِفَ له بالله فليرضَي، ومن لم يرضَ بالله فليس من الله»:
(وعنه) رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يُحْلَفْ بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
(وفي) رواية الحاكم:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل يمينٍ يُحلف بها دون الله شرك». (ومعنى) قوله صلى الله عليه وسلم: «فقد كفر أو أشرك»، وفي رواية: [فقد كفر وأشرك]: أي فَعَلَ فعْلَ أهل الشرك وتشبه بهم- إذ كانت أيمانهم بابائهم وما يعبدونه من دون الله- فقد أَشرك غير الله في تعظيمه..وفي هذا الحديث- الذي ندور حوله- بالإضافة إلى الروايات الأخرى وعيد شديد لمن يحلف بغير الله من المخلوقين..
(وقال) الجمهور: لا يكفر كفراً ينقله عن الملَّة، ولكنه من الشرك الأصغر كما نصَّ على ذلك ابن عباس وغيره..(وعليه) أن يقول: (لا إله إلا الله)..لأن ذلك سيكون كفارة له مع الإكثار من الاستغفار (ولهذا) فقد رأيت توضيحاً لكل هذا..أن أُلخص لك ما جاء في (فقه السنة) ج3ص 108تحت عنوان:
الأيمان:
(فلقد) ذكر أن الأيمان: جمع يمين، وهي اليد المقابلة لليد اليسرى، وسُمي بها الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلُّ بيمين صاحبه وقيل: لأنها تحفظ الشيء كما تحفظه اليمين.
(ومعنى) اليمين في الشرع: تحقيق الأمر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته..أو هو عقد يقِّوي به الحالف عزمه على الفعل أو الترك. واليمين، والحلف، والإيلاء، والقسم بمعنى واحد.
(ثم) قال بعد ذلك مشيراً إلى نص القسم المشروع: (ولا يكون) الحلف إلّا بذكر اسم الله أو صفة من صفاته، سواء أكانت صفات ذات، أم صفات أفعال، كقوله: والله، وعزة الله، وعظمته، وكبريائه، وقدرته، وإرادته، وعلمه.. كذا الحلف بالمصحف أو القرآن أو سورة منه أو آية منه.
(وقد) قال الله تعالى في قرآنه: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات:23]، وقال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ [المعارج:40].
(كما ورد في السنة (عن) ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، ومقلِّب القلوب». (وعن) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء قال: «والذي نفس أبي القاسم بيده» رواه أبو داود.
(ثم) أشار بعد ذلك إلى بعد الأيمان التي اختلف فيها الأئمة، وهي:
[أيْم الله، وعَمْرُ الله، وأقسمت عليك]: قسم.
[وأيم الله]: يمين، لأنها بمعنى والله، أو: وحق الله.
[ويمين الله]: يمين عند الأحناف والمالكية، لأن معناها: أحلف بالله.
وقالت الشافعية: لا تكون يميناً إلَّا بالنية، فإن نوى الحالف اليمين انعقدت، وإن لم ينو لم تنعقد.
وعند أحمد: روايتان أصحهما أنها تنعقد.
وعَمْرُ الله: يمين عند الأحناف والمالكية، لأنهما بمعنى وحياة الله وبقائه. (وقال) الشافعي رضي الله عنه، وأحمد وإسحاق: لا يكون يميناً إلا بالنية.
(وكلمة) أقسمْت عليك، وأقسمت بالله: يرى بعض العلماء أنه يكون يميناً مطلقاً، ويرى أكثرهم أنه لا يكون يميناً إلّا بالنية.
(وذهبت) الشافعية: إلى أن ما ذكر فيه اسم الله يكون يميناً، وأن لم يذكر فيه اسم الله لا يكون يميناً وإن نوى اليمين.
(وقال) مالك رضي الله عنه، إن قال الحالف: أقسمت بالله: كان يميناً، (وإن) قال: أقسمت أو أقسمت عليك، فإنه في هذه الصورة لا يكون يميناً إلا بالنية.
(ثم) يقول تحت عنوان:
الحلف بأيمان المسلمين:
(أن) الحلف بأيمان المسلمين: لا يلزم به شيء.
(ومن) قال: إن فعلتُ كذا فعليَّ صيام شهرٍ، أو الحجُّ إلى بيت الله الحرام: (أو قال):إن فعلتُ كذا فكل ما أملكه صدقة..(فهذا) وأمثاله فيه كفارة يمين متى حنث، وهو أظهر أقوال العلماء، وقيل: لا شيء فيه. (وقيل): إذا حنث لزمه ما علَّقه وحلف به.
(ثم) يقول تحت عنوان:
الحلف بأنه غير مسلم- أو الحلف بالبراءة من الإسلام:
(من) حلف أنه يهودي، أو نصراني، أو أنه بريء من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم: إن فعل كذا ففعله: (قال) جماعة من العلماء منهم الشافعي: ليس هذا بيمين ولا كفارة عليه.
لأن النصوص اقتصرت على التهديد والزجر الشديد.
(روى) أبو داود والنسائي (عن) بُريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال إني برئ من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً». (وعن) ثابت بن الضَّحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال».
(وذهب) الأحناف وأحمد وإسحاق وسفيان والأوزاعي: إلى أنه يمين، وعليه الكفارة إن حنث.
(ثم) يقول بعد ذلك، تحت عنوان:
الحلف بغير الله محظور:
(وإذا) كانت اليمين لا يكون إلّا بذكر اسم الله أو ذكر صفة من صفاته، فإنه يُحرم الحلف بغير ذلك، لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، والله وحده هو المختص بالتعظيم. (فمن) حلف بغير الله فأقسم بالنبي، أو الولي، أو الأب، أو الكعبة، أو ما شابه ذلك، فإن يمينه لا تنعقد، ولا كفارة عليه إذا حنث، وإثم بتعظيمه غير الله.
(وقد) جاء النهي عن الحلف بغير الله إذا كان يُقصد بذكره التعظيم كالحالف بالله يقصد بذكره تعظيمه، أما إذا لم يقصد التعظيم، بل يقصد الكلام، فهو مكروه من أجل المشابهة، ولأنه يشعر بتعظيم غير الله (فقد) قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «أفلح وأبيه»: قال البيهقي: إن ذلك كان يقع على العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد. (وأيَّد) النووي هذا الرأي وقال: إنه هو الجواب المرضي.
(ثم) يقول تحت عنوان:
شرط اليمين وركنها:
ويشترط في اليمين: العقل، والبلوغ، والإسلام. وإمكان البر والاختيار، فإن حلف مُكرهاً لم تنعقد يمينه (وركنها) اللفظ المستعمل فيها. (وحكم اليمين): أن يفعل الحالف المحلوف به فيكون بارّاً، أو لا يفعله فيحنث وتجب الكفارة.
(وأما) عن:
أقسام اليمين:
(فهي) ثلاثة: اليمين اللغو، واليمين المنعقد، واليمين الغموس.
(واليمين اللغو) هي الحلف من غير قصد اليمين، كأن يقول المرء: والله لتأكلنَّ، أو لتشربَنَّ أو لتحضرنَّ، ونحو ذلك لا يريد به يميناً، ولا يقصد به قسماً، فهو من سقط القول:
(فعن) عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أنزلت هذه الآية: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة:225]: في قول الرجل: (لا والله، وبلى والله، وكلا والله). رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(وقال) مالك رضي الله عنه والأحناف، والليث، والأوزاعي: (لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنُّ صدقه، فيظهر خلافه فهو من باب الخطأ) (وعند) أحمد رضي الله عنه: روايتان كالمذهبين.
(وحكم هذا اليمين) أنه لا كفارة فيه، ولا مؤاخذة عليه.
(واليمين المنعقدة): هي اليمين التي يقصدها الحالف ويصمِّم عليها، (فهي) يمين متعمَّدة مقصودة وليست لغواً يجري على اللسان بمقتضى العرف والعادة، وقيل: اليمين المنعقدة هي أن يحلف على أمر من المستقبل أن يفعله أو لا يفعله.
(وحكمها): وجوب الكفارة فيها عند الحنث:
قال الله تعالى ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:225].
وقال تبارك وتعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة:89].
(واليمين الغموس): وتسمى أيضاً الصَّابرة: وهي اليمين الكاذبة التي تُهضم بها الحقوق، أو التي يُقصد بها الفسق والخيانة (وهي) كبيرة من كبائر الإثم- ولا كفارة فيها- لأنها أعظم من أن تُكفَّر، وسُمِّيت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار جهنم، وتجب التوبة منها، ورد الحقوق إلى أصحابها إذا ترتب عليها ضياع هذه الحقوق.
(يقول) الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:94].
(وأما) عن:
كفارة اليمين:
(فهي) الإطعام، أو الكسوة، أو العتق: على التخيير، فمن لم يستطع، فليصم ثلاثة أيام..(وهذه) الثلاثة مرتبة ترتيباً تصاعدياً، أي تبدأ من الأدنى للأعلى، فالإطعام أدناها، والكسوة أوسطها، والعتق أعلاها..
(قال) تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة:89] (مع) ملاحظة أنه لا يشترط التتابع في الصوم، فيجوز صيامها متتابعة، كما يجوز صيامها متفرقة. (وأيضاً): مع ملاحظة أنه قد اتفق الأئمة الثلاثة على أن كفارة اليمين لا يجزئ فيها إخراج القيمة عن الإطعام والكسوة، وأجاز ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه.
(وأيضاً) مع ملاحظة قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [البقرة:224]: أي: لا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من البر والتقوى والإصلاح..
﴿قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم:2] أي: شرع لكم تحليل الأيمان بعمل الكفارة.
(روى) أحمد والبخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير وكفِّر عن يمينك».
(فلاحظ) كل هذا أخا الإسلام ونفِّذ الصواب فيه..وأحذر المحظور منه..(ثم) هناك ملاحظات هامة ختم بها صاحب (فقه السنة) تلك الأحكام، تحت عنوان:
أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه:
(فقال): وعلى هذا، يمكن تقسيم اليمين باعتبار المحلوف عليه إلى أقسام الآتية:
1- أن يحلف على فعل واجب، أو ترك محرم: فهذا يحرم الحنث فيه لأنه تأكيد لما كلفه الله به من عبادة.
2- أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم: فهذا يجب الحنث فيه لأنه حَلف على معصية، كما تجب الكفارة.
3- أن يحلف على فعل مُباح، أو تركه: فهذا يُكره فيه الحنث ويندب البر.
4- أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه: فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه وتجب الكفارة.
5- أن يحلف على فعل مندوب، أو ترك مكروه: فهذا طاعة لله، فيندب له الوفاء ويكره الحنث.
(فلاحظ) كل هذا أخا الإسلام..وكن حريصاً على اجتناب ما نهينا جميعاً في نص الوصية.. حتى لا نكون من أهل الشرك أو الكفر والعياذ بالله..(مع) حرصك أيضاً على الرجوع إلى كل تلك الحكام بالتفصيل في (فقه السنة) وجميع كتب الفقه المعتمدة حتى تتزود بأكثر من هذا...
والله ولي التوفيق
من وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام: جمع وإعداد طه عفيفي.
طباعة
ارسال