قال النوويّ رحمه الله تعالى في شرح مقدمة مسلم: «نَبَّهَ مسلمٌ رحمه الله تعالى على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع، وهو وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمامُ بها، والاعتناء بتحقيقها. وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها، وإيضاحها؛ وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدِّثين. وأول من بلغنا تصنيفُهُ، الإمام الشافعيّ رحمه الله، وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في أصول الفقه؛ ونذكر هنا طرفاً فنقول: اختلف العلماء في حكمه، فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين، فَمَنْ بعدهم من المحدّثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أَن خبر الواحد الثقة حجةٌ من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن، ولا يفيد العلم؛ وأن وجوب العمل به عَرَفناه بالشرع لا بالعقل. وذهبت القَدَرِية والرافضة وبعضُ أهل الظاهر إلى أنه لا يجب العمل به؛ ثم منهم من يقول: مَنَعَ من العمل به دليل العقل؛ ومنهم من يقول: منع دليل الشرع. وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل. وقال الجُبَّائي من المعتزلة: «لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين». وقال غيره: «لا يجب العمل إلا بما رواه عن أربعة». وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم. وقال بعضهم: «يوجب العلم الظاهر، دون الباطن». وذهب بعض المحدِّثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد. وهذه الأقاويلُ كلها، سوى قول الجمهور، باطلة؛ وإبطالُ مَنْ قال: «لا حجة فيه» ظاهر. فلم تَزَلْ كُتُبُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وآحادُ رسلهِ، يعملُ بها، ويُلْزِمُهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العملَ بذلك، واستمرَّ على ذلك الخلفاء الراشدون، فَمَنْ بعدهم، ولم تزلِ الخلفاء الراشدون، وسائرُ الصحابة، فمَنْ بعدهم من السلف والخلف، على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسُنَّةٍ، وقضائهم به، ورجوعهم إليه في القضاء والفُتْيا، ونَقْضِهِمْ به ما حكموا على خلافه، وطَلَبِهِم خبرَ الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم بذلك على مَن خالفهم، وانقياد المخالف لذلك. وهذا كلُّه معروف، لا شك في شيء منه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد. وقد جاء الشرع بوجوب العمل به، فوجب المصير إليه. وأما من قال: «يوجب العلم» فهو مكابر للحسّ؛ وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرِّقٌ إليه؟» انتهى.
وفي حصول المأمول: «قد دلَّ على العمل بخبر الواحد، والكتاب والسنة والاجماع ولم يأت من خالف في العمل به يَصلُحُ للتمسك به. ومن تَتَبّعَ عملَ الصحابة من الخلفاء وغيرهم، وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد، وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلّا مصنَّف بسيط؛ وإذا وقع من بعضهم التردُّدُ في العمل به في بعض الأحوال، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبرَ واحدٍ مِن ريبة في الصحة، أَو تهمةٍ للرواي، أو وجودِ مُعارض راجحٍ أو نحوِ ذلك» اهـ.
وقد جوَّد الكلامَ على قبول خبر الواحد الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى في رسالته الشهيرة في باب على حدة، ويجدر بذي الهمة الوقوف على لطائفه؛ وأوسع فيه أيضاً الحافظ ابن حجر في الفتح، عند قول البخاري: «باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام» فليُرْجَعْ إليه. ومما نقله فيه أن بعض العلماء احتج لقبول خبر الواحد أن كل صاحب أو تابع سُئِلَ عن نازلة في الدين، فأخبر السائل بما عنده فيها من الحُكْم أَنه لم يَشْتَرِطْ عليه أحدٌ منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك حتى يسأل غيره فضلاً عن أن يسأل الكوافَّ؛ بل كان كل منهم يخبره بما عنده، فيعمل بمقضاه ولا ينكر عليه ذلك فدلَّ على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد.
وفيه أيضاً: قال ابن القيم في الرد على من ردَّ خبر الواحد، إذا كان زائداً على القرآن ما ملخصه: «السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تُوَافِقَه مِن كل وجه، فيكون مِن توارُدِ الأدلة؛ ثانيها: أن تكون بياناً لِمَا أُرِيدَ بالقرآن؛ ثالثها: أن تكون تكون دالة على حكم سَكَتَ عنه القرآن. وهذا الثالث يكون حُكْماً مُبْتَدَأ من النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب طاعته فيه. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فيما وافق القرآن لم تكن له طاعة خاصة؛ وقد قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء:80]؛ وقد تناقضَ مَن قال إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن إلا إنْ كان متواتراً، أو مشهوراً فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط، والشُّفْة، والرهن في الحضر، وميراث الجدّة، وتخيير الأمةِ إذا أُعْتِقَتْ، ومنعِ الحائض من الصوم والصلاة، ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان، ووجوب إحداد المُعْتَدَّة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر، وأن أقلَّ الصّداق عشرةُ دراهم، وتوريث بنت الابن السداس مع البنت، واستبراء المَسْبيّة بحيضة، وأن أعيان بني الأُم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطعِ رِجْلِ السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ وغيرها مما يطول شرحه. وهذه الأحاديث، كلها آحاد، وبعضها ثابت، وبعضهال غير ثابت، ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام، ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحلُّ بسطها أصول الفقه، وبالله التوفيق» انتهى.
· المصدر: قواعد التحديث من علم الحديث: الشيخ جمال الدين القاسمي.
طباعة
ارسال