هذا من أجل نوع وأفخمه، فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه، ولأهل المعرفة بالحديث فيه تصانيف كثيرة.
منها ما أفرد في الضعفاء ككتاب [الضعفاء] للبخاري، و[الضعفاء] للنسائي، و[الضعفاء] للعقيلي وغيرها.
ومنها في الثقات فحسب، ككتاب[الثقات] لأبي حاتم بن حبان.
ومنها ما جمع فيه بين الثقات والضعفاء، كتاريخ البخاري، وتاريخ بن أبي خيثمة، وما أغزر فوائده، وكتاب [الجرح والتعديل] لابن أبي حاتم الرازي.
روينا عن صالح بن محمد الحافظ جزرة قال: أول من تكلم في الرجال شعبة ابن الحجاج، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم بعده أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين.
قلت: وهؤلاء يعني أنه أول من تصدى لذلك وعُني به، وإلا فالكلام فيه جرحاً وتعديلا متقدم، ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وجُوز ذلك صوناً للشريعة، ونفياً للخطأ والكذب عنها.
وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة. ورُويت عن أبي بكر بن خلاد قال: قلت ليحيى بن سعيد: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لئن يكونوا خصمائي أحب إليَّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لي: لِمَ لم تذب الكذب عن حديثي.
وروينا- أو: بلغنا- أن أبا تراب النخشبي الزاهد، سمع من أحمد بن حنبل شيئاً من ذلك، فقال له: يا شيخ! لا تغتاب العلماء. فقال له: ويحك! هذا نصيحة! ليس هذا غيبة.
ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى،ويتثبت ويتوقى التساهل، كيلا يجرح سليماً ويسم برياً بسمة سوء، يبقى عليه الدهرَ عارُها. وأحسب أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم- وقد قيل: إنه كان يعد من الأبدال- من مثل ما ذكرناه خَافَ.
فيما رويناه أو بلغناه: أن يوسف بن الحسين الرازي، وهو الصوفي، دخل عليه وهو يقرأ كتابه في الجرح والتعديل، فقال له: كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة، منذ مائة سنة، ومائتي سنة، وأنت تكذبهم وتغاتبهم؟ فبكى عبد الرحمن.
وبلغنا أيضاً: أنه حُدث، وهو يقرأ كتابه على الناس، عن يحيى بن معين أنه قال: إنا لنطعن على أقوام، لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة. فبكى عبد الرحمن، وارتعدت يداه، حتى سقط الكتاب من يده.
قال المؤلف: وقد أخطأ فيه غير واحد على غير واحد، فجرحوهم بما لا صحة له.
من ذلك: جرح أبي عبد الرحمن النسائي لأحمد بن صالح، وهو إمام حافظ ثقة، لا يعلق به جرح، أخرج عنه البخاري في صحيحه. وقد كان من أحمد إلى النسائي جفاء أفسد قلبه عليه.
وروينا عن أبي يعلى الخليلي الحافظ قال: اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل، ولا يقدح كلام أمثاله فيه.
قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نسب مثله إلى مثل هذا كان وجهه: أن عين السُخط تبدي مساوي لها في الباطن مخارج صحيحة، تُعْمى عنها بحجاب السخط، لا أن ذلك يقع من مثله تعمداً لقدح بطلانه، فاعلم هذا فإنه من النكت النفيسة المهمة.
وقد مضى الكلام في أحكام الجرح والتعديل في النوع الثالث والعشرين، والله أعلم.
مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: الإمام ابن الصلاح.
طباعة
ارسال