(1) الثَّمرة الأولى:
صِحَّة الحديث توجي القطع به، كما اختاره ابن الصلاح في الصحيحين، وجزم بأنه هو القول الصحيح.
قال السَّخاويُّ في (فتح المغيث): (وسبقه إلى القول بذلك في الخبر المُتلقَّى بالقبول الجمهور من المحدِّثين والأصوليين، وعامة السلف، بل وكذا غير واحد في الصحيحين).
قال أبو إسحق الإسفراييني: (أهل الصنعة مجمعون على أنَّ الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بصحة أُصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلافٌ في طُرُقها ورُواتها)؛ قال: (فمن خالف حُكمه خبراً منها وليس له تأويل سائغ للخبر، نقضنا حُكمه، لأن هذه الأخبار تلقَّتها الأمَّة بالقبول).
ونقل السيوطي في التدريب، في أخر الكلام على الفائدة الرابعة من مسائل الصحيح عن الحافظ ابن نصر السجزي أنه قال: (أجمع الفقهاء وغيرهم، أنَّ رجلاً لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري صحيحٌ، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شكَّ فيه لم يحنث) انتهى.
ونقل بعد أيضاً أن إمام الحرمين قال: (لو حلف إنسانٌ بطلاق امرأته أنَّ ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَا ألزمته الطلاق، لإجماع المسلمين على صحته) انتهى.
واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته فيهما ما تُكلِّ فيه من أحاديثهما وقد أجاب عنها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بتمامها؛ قال النوويّ: (ما ضُعِّفَ من أحاديثهما مبنيُّ على علل ليست بقادحة).
هذا وقيل: إن صحَّة الحديث لا توجب القطع به في نفس الأمر، لجواز الخطأ والنسيان على الثقة؛ وعزاه النوويّ في التقريب لرأى كثرين والمحققين، وأنهم قالوا: (إنه يفيد الظن ما لم يتواتر) قال في شرح مسلم: (لأن ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما، وتلقِّي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقفٍ على النظر فيه، بخلاف غيرهما، فلا يُعملُ به حتى يُنظر فيه، ويوج
فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم).
وناقش البُلقينيّ فيما اعتمده، وذكر أن ما قاله ابن الصلاح محكيٌّ عن كثير من فضلاء المذاهب الأربعة، وأنه مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامةً؛ بل بالغ ابن طاهر المقدسيّ فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يُخرِّجاه.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: (الخبر المتحفُّ بالقرائن يفيد العلم، خلافاً لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواعٌ؛ ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ التواتر،فإنه احتّفَّ به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول؛ وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرَّد كثرة الطَّرُق القاصرة عن التواتر؛ إلا أن هذا مختصٌّ بما لم ينتقده أحدٌ من الحُفَّاظ، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه، حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيحٍ لأحدهما على الآخر؛ وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته).
ثم قال: (ومنها المشهور، إذا كانت له طُرُقٌ متباينة من ضعف الرُّواة والعلل؛ ومنها المُسلْسَلُ بالأئمة الحُفَّاظ، حيث لا يكون غريباً، كحديث يرويه أحمد مثلاً، ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رُواته).
قال: (وهذا الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم فيها إلا للعالم المتبحِّر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وكون غيره لا يحصل له العلم لقصوره عن الأوصاف المذكورة، لا ينفي حصول العلم للمتبحِّر المذكور) انتهى. قال ابن كثير: (وأنا مع ابن الصَّلاح فيما عوَّل عليه وأرشد إليه). قال السيوطي: (قلت وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه). انتهى.
أقول: تلخَّص في القول بأن صحة الحديث توجب القطع به، ثلاثة مذاهب:
الأول: إيجابُها: ذلك مطلقاً ولو لم يخرجه الشيخان وهو ما قاله ابن طاهر المقدسي.
الثاني: إيجابها ذلك فيما روياه، أو أحدُهما، وهو ما اعتمده ابن الصلاح وغيره.
الثالث: إيجابها ذلك في الصحيحين وفي المشهور وفي المسلسل بالأئمة، وهو اعتمده ابن حجر كما بينا.
(2) الثَّمرة الثانية:
قال الحافظ ابن حجر في (شرح النخبة): (اتفق العلماء على وجوب العمل بكلّ ما صحَّ، ولو لم يُخرِّجه الشيخان).
وقال الإمام شمس الدين بن القيم في (إعلام الموقِّعين): (ترى كثيراً من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلَّده، وقد خالفه راويه، يقول: (الحُجَّة فيما روى، لا في قوله) فإذا جاء قول الراوي لقول من قلَّه، والحديث يخالفه، قال: (لم يكن الراوي يخالف ما رواه، إلّا وقد صحَّ عنده نسخه، وإلا كان قدحاً في عدالته). فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا. بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض.
(والذي نَدِينُ الله به، ولا يسعنا غيره: أن الحديث إذا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصحَّ عنه حديثٌ آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحدٍ من الناس كائناً من كان، لا روايه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، ولا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطَّن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأوَّل فيه تأويلاً مرجوحاً، أو يكون في ظنِّه ما يعارضه، ولا يكون مُعارضاً في نفس الأمر، أو يُقلِّده غيره في فتواه بخلافه، لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدِّر انتفاء ذلك كلِّه- ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه- لم يكن الراوي معصوماً، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك) انتهى.
وفي كتاب (قاموس الشريعة) للسعدي: (إذا رفع الصحابيُّ خبراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإيجاب فعلٍ، وجب العمل به على من بلغه من المكلَّفِين، إلى أن يلقى خبراً غيره ينسخ ذلك الخبر، وحينئذٍ فعلى من عمل بالخبر الأول الرجوع إلى الثاني، وترك العمل بالأول).
وفيه أيضاً: (كلُّ مسألةٍ لم يخل الصواب فيها من أحد القولين ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده، صحَّ أن الحقَّ في الآخر. قال الله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [سورة يونس:32].
وقال الإمام ابن القيم في إعلام الموقِّين: (كان الإمام أحمد إذا وجد النصَّ أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه، كائنا من كان، ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر رضي الله عنه في المبتوتة، لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في التَّيمُّم للجُنُب، لحديث عمَّار بن ياسر، ولا خلافه في استدامة المجرم الطِّيبَ الذي يطَّيَّب به قبل إحرامه، لصحة حديث عائشة في ذلك؛ ولا خلافه في منع المنفرد والقارن من الفسخ إلى التمتُّع لصحة أحاديث الفسخ؛ وكذا لم يلتف إلى قول علي وعثمان وطلحة وأُبَيّ بن كعب رضي الله عنهم في ترك الغسل من الإكسال، لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلا؛ ولم يلتفت إلى قول ابن عباس، وإحدى الروايتين عن علي، أن عُدَّة المتوفَّى عنها الحامل أقصى الأجلين، لصحة حديث سُبَيْعَةَ الأسلمية؛ ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر، لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما؛ ولم يلتفت إلى قول ابن عبَّاس في الصرف، لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك، وهذا كثير جداً. ولم يكن يُقدِّم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً، ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس إجماعاً، ويقدِّمونه على الحديث الصحيح وقد نصَّ الشافعي في رسالته الجديدة على أن: (ما لا يُعلم فيه الخلاف لا يقال له إجماع) ولفظه: (ما لا يُعلم فيه الخلاف فليس إجماعاً). ثم قال ابن القيم: (ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإمام، وسائر أئمة الحديث، أجلُّ من أن يُقدَّم عليها توهُّم إجماعٍ، مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطَّلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألةٍ، أن يُقدِّم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعيُّ من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعادٌ لوجوده). انتهى.
وقال العارف الشعرانيّ قدس الله سره في الميزان: فإن قلت: فما أصنع بالأحاديث التي صحَّتْ بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها؟) فالجواب: (ينبغي لك أن تعمل بها، فإن إمامك لو ظفر بها، وصحَّت عنده، لربما كان أمرك بها؛ فإن الأئمَّة كلَّهم أسْرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه)؛ ومن قال: (لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي!) فاته خيرٌ كثيرٌ، كما عليه كثير من المقلِّدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكلِّ حديثٍ صحَّ بعد إمامهم، تنفيذاً لوصيَّة الأئمة؛ فإن اعتقادنا فيهم، أنهم لو عاشوا وظفروا بتلك الأحاديث التي صحَّت بعدهم، لأخذوا بها، وعملوا بها وتركوا كلَّ قياسٍ كانوا قاسوه، وكلَّ قولٍ كانوا قالوه. وقد بلغنا من طرقٍ صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل يقول للإمام أحمد ابن حنبل: (إذا صحَّ عندكم حديثٌ فأعلمونا به، لنأخذ به ونترك كل قول قلناه قبل ذلك، أو قاله غيرنا، فإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به).
وقال الشعراني قدِّس سرُّه أيضاً في الرد على من يزعم أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه، يُقدِّم القياس على الحديث ما نصه: (ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة أنه يُقدِّم القياس على النص، ظفر بذلك في كلام مقلِديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس، ويتركون الحديث الذي صحَّ بعد موت الإمام، فالإمام معذور، وأتباعه غير معذورين؛ وقولهم: (إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث) لا ينهض حُجةً، لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصحَّ عنده؛ وقد تقدَّم قول الأئمة كلِّهم: (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبنا) وليس لأحدٍ معه قياسٌ ولا حجة، إلا طاعة وطاعة رسوله بالتسليم له) انتهى.
وقال العمدة الشهير السيّد محمد عابدين الدمشقي في شرح المنظومة المسمَّاة بعقود رسم المفتي: (إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى، من شدَّة احتياطه وورعه وعلمه بأن الاختلاف من آثار الرحمة قال لأصحابه: إن توجَّه لكم دليل فقولوا به).
وقال بعد أسطر: (فقد صحَّ عن أبي حنيفة أنه قال: (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي). وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البرّ عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة؛ ونقله أيضاً الإمام الشعرانيّ عن الأئمة الأربعة؛ ونقل فيها عن البحر قال: إنهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحلُّ لحد أن يُفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا، حتى نقل في السِّرَاجيّة أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام، وكان يُفتي بخلاف قوله كثيراً، لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليلٌ غيره فيفتي به).
وفيها أيضاً عن العلَّامة قاسم أنه قال في رسالته المسمَّاة رفع الاشتباه، عن مسألة المياه: (لما منع علماؤنا رضي الله تعالى عنهم من كان له أهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العالم العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: ليس لأحد أن يُفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا؛ تتبعتُ مآخذهم، وحصلتُ منها بحمد الله تعالى على الكثير، ولم أقنع بتقليد ما في صحف كثير من المصنفين...الخ).
وقال في رسالة أُخرى: (وإني، ولله الحمد، لأقول كما قال الطَّحاوي لابن حربويه: لا يقلِّد إلا عصبيٌّ أو غبيّ) انتهى.
(3) الثَّمرةُ الثالثة:
في (حصول المأمول من علم الأصول) ما نصه: (إعلم أنه لا يضرُّ الخبر الصحيح عمل ُ أكثر الأمة بخلافه، لأن قول الأكثر ليس بحجة؛ وكذا عمل أهل المدينة بخلافه، خلافاً لمالك وأتباعه، لأنهم بعض الأمة، ولجواز أنهم لم يبلغهم الخبر، ولا يضرُّه عمل الراوي له بخلافه، خلافاً لجمهور الحنفية وبعض المالكية، لأنا متعبَّدون بما بلغ إلينا من الخبر، ولم نُتعبَّدْ بما فهمه الراوي، ولم يأت من قدَّم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها، ولا يضرُّهُ كونه مما تعمُّ به البلوى، خلافاً للحنفية وأبي عبد البصري، لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك. ولا يضرُّه كونه في الحدود والكفَّارات، خلافاً للكرخيّ من الحنفية، ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدلٍ في حكم شرعيّ، ولم يثبت في الحدود والكفارات دليلٌ يخصها من عموم الأحكام الشرعية ولا يضره أيضاً كونه زيادةً على النص القرآني، أو السُّنَّة القطعية، خلافاً للحنفية، فقالوا إذا ورد بالزيادة كان نسخاً لا يقبل. والحق القبول، لأنها زيادة غير منافية للمزيد، فكانت مقبولةً، ودعوى أنها ناسخةٌ ممنوعةٌ. وهكذا إذ ورد الخبر مُخصِّصاً للعام من كتاب أو السنة، فإنه مقبولٌ، ويُبنى العامُّ على الخاص خلافاً لبعض الحنفية؛ وهكذا إذا ورد مقيِّداً لمطلق الكتاب أو السنة المتواترة. ولا يضره أيضاً كون راويه انفرد بزيادة فيه، على ما رواه غيرُه، إذا كان عدلاً؛ فقد يحفظ الفرد ما لا تحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور؛ وهذا في صورة عدم المنافاة، وإلَّا فرواية الجماعة أرجح؛ ومثل انفرد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقفه الجماعة؛ وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه، وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه، فإن ذلك مقبول منه، لأنه زيادة على ما ردُّوه، وتصحيحٌ لما أعلُّوه. ولا يضره أيضاً كونه خارجاً مخرج ضرب الأمثال).
(4) الثَّمرةُ الرابعة:
قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي في (كتاب الرُّوح): ينبغي أن يُفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غُلُوٍّ ولا تقصير، فلا يُحمَّلُ كلامه ما لا يحتمله، ولا يُقصَّرُ به عن مراده وما قصده من الهدي والبيان. وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب، ما لا يعلمه إلا الله؛ بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كلِّ خطأٍ في الأصول والفروع، ولا سيّما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتَّفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع، مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع، فيامحنة الدين وأهله! والله المستعان. وهل أوقع القدريَّة والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهميَّة والروافض وسائر طوائف أهل البدع إلّا سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس، هو موجب هذه الأفهام! والذي فهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تبعهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمهجور لا يلتفت إليه، ولا يرفع هؤلاء به رأساً؛ ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزادت على عشرات ألوف، حتى إنك لتمرُّ على الكتاب من أوله إلى آخره، فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله مرده كما ينبغي في موضع واحد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأمّا من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول صلى اله عليه وسلم على ما اعتقده وانتحله، وقلَّده فيه من أحسن به الظن، فليس يُجدي الكلام معه شيئاً، فدعه وما اختاره لنفسه وولِّه ما تولى، واحمد الذي عافاك مما ابتلاه به) انتهى
وقال الإمام علمُ الدين الشيخ صالح الفُلّاني المالكي الأثري في كتابه (إيقاظ الهمم): (ترى بعض الناس إذا وجد حديثاً يوافق مذهبهُ، فرح به وانقاد له وسلَّم؛ وإن وجدَ حديثاً صحيحاً سالماً من النَّسْخِ والمعارض، ومؤيّداً لمذهب غير إمامه، فتح له باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه أوجُهاً من الترجيح، مع مخالفته للصحابة والتابعين والنصِّ الصريح؛ وإن شرح كتاباً من كتب الحديث حرَّف كل حديث خالف رأيه الحديث؛ وإن عجز عن ذلك كلِّه ادَّعى النسخَ بلا دليل، أو الخصوصية، أو عدم العمل به، أو غير ذلك مما يحضر ذهنه العليل؛ وإن عجز عن ذلك كلِّه أدَّى أن إمامه اطلع على كل مرويٍّ أو جلِّه، فما ترك هذا الحديث الشريف، إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف، فيتخذُ علماء مذهبه أرباباً، ويفتح لمناقبهم وكراماتهم أبواباً، ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صواباً؛ وإن نصحه أحدٌ من علماء السنة اتخذه عدواً، ولو كانوا قبل ذلك أحباباً؛ وإن وجد كتاباً من كتب مذهب إمامه المشهورة قد تضمن نصحه وذم الرأي والتقليد، وحرَّض على اتِّباع الأحاديث المشهورة نبذه وراء ظهره، وأعرض عن نهيه وأمره، واعتقده حجراً كحجوراً) انتهى.
أقول: إن الشيخ الفُلّاني هو من كبار من أخذ عنه مسند الشام الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومن طريقه ارتفع علوُّ إسناده في البخاري هو ومن شاركه في الأخذ عنه رحمه الله تعالى.
* المصدر:
قواعد التحديث من علم مصطلح الحديث: الشيخ جمال الدين القاسمي.
طباعة
ارسال