قال الإمام وليُّ الله الدَّهْلوي قُدِّسَ سرُّهُ تحت هذا العنوان في (الحجة البالغة) ما نصه: (اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم والزُّهري، وفي عصر مالك وسفيان، وبعد ذلك قومٌ يكرهون الخوض بالرأي، ويهابون الفُتْيَا والاستنباط إلّا لضرورةٍ لا يجدون منها بداً. وكان أكبر همِّهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. سئل عبد الله بن مسعود عن شيءٍ فقال: إني لأكره أن أُحِلَّ لك شيئاً حرَّمه الله عليك، أو أُحرِّم ما أحلَّه الله لك. وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس! لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سُئل مرد. ورُوى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل. وقال ابن عمر لجابر بن زيد: إنك من فقهاء البصرة، فلا تُفْتِ إلَّا بقرآن ناطق، أو سُنَّةٍ ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك، هلكت وأهلكت. وقال أبو النضر: لمَّا قدم أبو سلمة البصرة، أتيته أنا والحسن، فقال للحسن: أنت الحسن؟ ما كان أحد بالبصرة أحبَّ إليَّ لقاءً منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل. وقال ابن المنكذر: إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عباده، فليطلب لنفسه المخرج. وسُئل الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سُئلتم؟ قال: على الخبير وقعت، كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفْتِهِمْ، فلا يزال حتى يرجع إلى الأوّل. وقال الشعبي: ما حدَّثوك هؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخُذْ به، وما قالوه برأيهم، فألقه في الحش. (أخرج هذه الآثار عن آخرها الدَّارمي).
(فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام وكتابة الصُّحف والنُّسخ، حتى قلَّ من يكون أهل الرواية إلا كان له تدوينٌ أو صحيفةٌ أو نسخةٌ من حاجتهم لموقع عظيم، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان، وجمعوا الكتب، وتتبَّعوا النُّسخَ، وأمعنوا في التَّفحُّص عن غريب الحديث، ونوادر الأثر، فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجمعْ لأحدٍ قبلهم، وتيسَّر لهم ما لم يتيسَّر لأحد قبلهم، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيءٌ كثير، حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مئة طريق فما فوقها، فكشف بعض الطُّرق ما اسْتترَ في بعضها الآخر، وعرفوا محلَّ كل حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المُتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل. قال الشافعي لأحمد: أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبرٌ صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً، (حكاه ابن الهمام)، وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلدٍ خاصَّة، كأفراد الشاميِّين والعراقيِّين أو أهل بيتٍ خاصَّة، كنُسخةِ بريد عن أبي بردة عن أبي موسى، ونسخةِ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مُقِلّا خاملاً لم يحمل عنه إلا شر ذمة قليلون. فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامَّةُ أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار فقهاء كلٍّ بلد من الصحابة والتابعين، وكان الرجل فيما قبلهم لا يتمكَّن إلَّ من جمع حديث بلده وأصحابه، وكان من قبلهم يعتمدون في معرفة أسماء الرجال ومراتب عدالتهم على ما يخلص إليهم من مشاهدة الحال، وتتبُّع القرائن، وأمعن هذه الطبقة في هذا الفن، وجعلوه شيئاً مستقلاً بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحة وغيرها، فانكشف عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خافياً من حال الاتصال والانقطاع. وكان سفيان ووكيعٌ وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد، فلا يتمكَّنون من الحديث المرفوع المتصل إلَّا من دوَّن ألف حديث، كما ذكره أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة. وكان أهل هذه الطبقة يروون أربعين ألف حديث، فما يقرب منها، بل صحَّ عن البخاري: أنه اختصر صحيحه من ستة آلاف حديث. وعن أبي داود: أنه اختصر سننه من خمسة آلاف حديث؛ وجعل أحمد مسنده ميزاناً يُعرف به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وُجد فيه ولو بطريقٍ واحدٍ منه، فله أصل له؛ فكان رُؤوس هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطَّان، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومُسدَّدٌ، وهنَّاد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، والفضل بن دكين، وعليّ المديني، وأقرانهم. وهذه الطبقة هي الطراز الأول من طبقات المحدِّثين، فرجع المحققون منهم بعد إحكام فنِّ الرواية ومعرفة مراتب الأحاديث إلى الفقه، فلم يكن عندهم من الرأي أن يُجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يرون من الأحاديث والآثار المناقضة في كل مذهب من تلك المذاهب، فأخذوا يتتبعون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة والتابعين والمجتهدين، على قواعد احكموها في نفوسهم، وأنا أُبيِّنُها في كلماتٍ يسيرة:
(كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ٌ ناطق فلا يجوز التحوُّل إلى غيره، وإذا كان القرآن مُحتملاً لوجوه، فالسنة قاضيةٌ عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسام، سواء كان مستفيضاً دائراٍ بين الفقهاء، أو يكون مختصاً بأهل بلد، أو أهل بيت، أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث فلا يُتَّبعُ فيها خلاف أثرٍ من الآثار، ولا اجتهاد أحدٍ من المجتهدين، وإذا فرغوا جهدهم في تتبُّع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثاً، أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقومٍ دون قوم، ولا بلدٍ دون بلد، كما كان يفعل من قبلهم؛ فإن اتَّفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المُقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علماً، وأورعهم ورعاً، أو أكثرهم ضبطاً، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئاً يستوي فيه قولان، فهي مسألةٌ ذات قولين، فإن عجزوا عن ذلك أيضاً تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما، واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا مُتقاربتين بادي الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يخلص إلى الفهم، ويثلج به الصدر، كما أنه ليس ميزان التواتر عدد الرواة، ولا حالهم، ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس. وكانت هذه الأصول مُستخرجةً عن صنيع الأوائل وتصريحاتهم.
وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر [رضي الله عنه] إذا ورد عليه الخصم، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم، قضى به. وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة، قضى بها؛ فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءً، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا؛ فإن أعياه أن يجدَ فيه سنةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمرٍ قضى به. وعن شريح: أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] كتب إليه: (إن جاءك شيءٌ في كتاب الله فاقضِ به، ولا يلفتك عنه الرجال؛ فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ إن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به؛ فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أيَّ الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهدَ برأيك ثم تقدَّم فتقدَّم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخُّر إلَّا خيراً لك. و(عن) عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] قال: أتى علينا زمان، لسنا نقضي، ولسنا هنالك! وإن الله قد قدَّرَ من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرضَ له قضاءٌ بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عزَّ وجلّ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقضِ بما قضى به رسول الله صل الله عليه وسلم، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقضِ بما قضى به الصالحون، ولا يقل: إني أخاف، وإني أرى فإن الحرام بيّنٌ والحلال بيّنٌ، وبين ذلك أمورٌ مشتبهةٌ فدع ما يريبُك إلا ما لا يريبك). وكان ابن عباس إذا سُئل عن الأمر، فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به، وإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن، قال فيه برأيه.
عن ابن عباس [رضي الله عنه]: أما تخافون أن تُعذَّبوا أو يُخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فلان. عن قتادة قال: حدَّث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: قال فلان كذا وكذا...، فقال ابن سيرين: أُحدِّثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: قال فلان كذا وكذا؟ عن الأوزاعي: قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أنه لا رأي لأحدٍ في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض فيه سنةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأي لأحدٍ في سُنَّةٍ سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن الأعمش قال: كان إبراهيم يقول: يقوم عن يساره، فحدَّثته عن سميع الزيَّات عن ابن عباس: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه، فأخذ به عن الشعبي: جاءه رجل يسأله عن شيءٍ فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال أخبرني أنت برأيك، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي! وديني عندي آثر من ذلك! والله لأن أتغنَّى بأغنيةٍ أحبُّ إليُّ من أن أُخبرك برأيي. (أخرج هذه الآثار كلها الدارمي).
وأخرج الترمذي عن أبي السائب، قال: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو حنيفة: (هو مُثلةٌ؛ قال الرجل: فإنه قد روى [أو حنيفة] عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مُثلةٌ، قال: رأيت وكيعاً غضب غضباً شديداً وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقَّك بأن تُحبسَ ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا!! وعن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة فلما مهَّدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من السائل التي تكلَّم فيها من قبلهم، والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثاً مرفوعاً، متصلاً أو مرسلاً أو موقوفاً صحيحاً أو حسناً أو صالحاً للاعتبار، أو استنباطاً من عموم، أو إيماءً أو اقتضاءً، فيسَّر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأناً، وأوسعهم روايةً، وأعرفهم للحديث مرتبةً، وأعمقهم فيها أحمد بن محمد بن حنبل ثم إسحاق بن راهويه، وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمع شيءٍ كثير من الأحاديث والآثار).
(ثم أنشأَ الله تعالى قرناً آخرَ، فرأوا أصحابهم قد كُفُوا مؤونة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على أصلهم فتفرَّغوا لفنون أخرى، كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه بين كُبراء أهل الحديث، كزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد القطَّان، وأحمد، وإسحاق، وأضرابهم؛ وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم؛ وكالحكم على كل حديث بما يستحقُّه، وكالشاذَّة والفاذَّةِ من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم يخرجوا من جهتها الأوائل مما فيه اتصالٌ، أو علوُّ سندٍ، أو رواية فقيهٍ عن فقيهٍ أو حافظٍ عن حافظ، ونحو ذلك من المطالب العلميَّة، وهؤلاء هم: البخاري ومسلم، وأبو داود، وعبد بن حميد، والدَّارمي، وابن ماجه، وأبو يعلى، والتِّرمذي، والنَّسائي، والدَّارقطني، والحاكم، والبيهقيُّ، والخطيب، والدَّيلميُّ، وابن عبد البرّ، وأمثالهم. وكان أوسعهم علماً عندي، وأنفعهم تصنيفاً، واشهرهم ذكراً، رجالٌ أربعة، متقاربون في العصر.
أوَّلُهُم: أبو عبد الله البخاري: وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة من غيرها، واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها، فصنَّف جامعه الصحيح، ووفَّى بما شرط. وبلغنا أن رجلاً من الصالحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول: ما لك اشتغلت بفقه محمد بن إدريس وتركت كتابي: قال: يا رسول اله وما كتابك؟ قال: صحيح البخاري. ولعمري! إنه نال من الشُهرة والقبول درجةً لا يُرامُ فوقها.
وثانيهم: مسلم النَّيسابوريّ: توخَّى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدِّثين المتصلة المرفوعة، مما يُستنبطُ منه السنة، وأراد تقريبها إلى الأذهان، وتسهيل الاستنباط منها، فرتَّب ترتيباً جيداً، وجمع طرق كلِّ حديثٍ في موضعٍ واحدٍ ليتضح اختلاف المتون، وتشعُّبُ الأسانيد أصرحُ ما يكون، وجمع بين المختلفات، فلم يدعْ لمن له معرفة لسان العرب عُذراً في الإعراض عن السنة إلى غيرها.
وثالثهم: أبو داود السجستاني: وكان همَّتُهُ جمع الأحاديث التي استدلَّ بها الفقهاء ودارت فيهم، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار، فصنَّف سُننه، وجمع فيها الصحيح والحسن واللَّين والصالح للعمل. قال أبو داود: (ما ذكرت في كتابي حديثاً أجمع الناس على تركه) وما كان منها ضعيفاً صرَّح بضعفه، وما كان فيه علَّةٌ بيَّنها بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن، وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالمٌ وذهب إليه ذاهبٌ، ولذلك صرَّح الغزالي وغيره بأنه كتابه كافٍ للمجتهد.
ورابعهم: أبو عيسى الترمذي: وكأنه استحسن طريقة الشَّيخين حيث بيَّنا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كلَّ ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، فجمع كتاباً جامعاً، واختصر طرق الحديث اختصاراً لطيفاً، فذكر واحداً، وأومأ إلى ما عداه، وبين أمر كلِّ حديثٍ من أنه صحيحٌ أو حسنٌ أو ضعيفٌ أو مُنكر، وبيَّن وجه الضَّعف ليكون الطالب على بصيرةٍ من أمره، فيعرف ما يصلح للاعتبار عمّ دونه، وذكر أنه مستفبضٌ أو غريب. وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار، وسمَّى من يحتاج إلى التَّسمية، وكنَّى من يحتاج إلى الكنية، ولم يدع خفاءً لمن هو من رجال العلم؛ ولذلك يقال: إنه كافٍ للمجتهد، مُغْنٍ للمقلِّد).
(وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوم لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين، فلا بُدَّ من إشاعته، ويهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرفع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحبُّ إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم: أقول: قال عبد الله وقال علقمة أحبُّ إلينا. وان ابن مسعود إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربَّد وجهه وقال: هكذا أو نحوه. وقال عمر حين بعث رهطاً من الأنصار إلى الكوفة: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قوماً لهم أزيزٌ بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونكم، فيسألونكم عن الحديث، فأقِلُّوا الرواية عن رسول الله صلى اله عليه وسلم. قال ابن عون: كان الشعبي إذا جاءه شيءٌ أتَّقى، وكان إبراهيم يقول ويقول. (أخرج هذه الآثار الدارمي).
(فوقع تدوينُ الحديث والفقه والمسائل من حاجتهم بموقعٍ من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار، ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء البلدان، وجمعها والبحث عنها، واتَّهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكانت قلوبهم أميل شيءٍ إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحدٌ منهم أثبت من عبد الله؟ وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصُّحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر؛ وكان عندهم من الفطانة والحدسِ وسرعة انتقال الذهن من شيءٍ إلى شيءٍ ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم، و(كُلٌّ مُيسَّرٌ لما خلق له)؛ و﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [سورة المؤمنون:53] فمهَّدوا الفقه على قاعدة التًَّخريج، وذلك أن يحفظ كلُّ أحدٍ كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القول، وأصحِّهم نظراً في الترجيح، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم، فكلَّما سُئل عن شيءٍ أو احتاج إلى شيءٍ، رأى فيما يحفظه من تصريحات أصحابه، فإن وجد الجواب فيها، وإلَّ نظر إلى عموم كلامهم، فأجراه على هذه الصورة و إشارة ضمنيَّةٍ لكلام، فاستنبط منها، وربما كان لبعض الكلام إيماءٌ أو اقتضاءٌ يُفهم المقصود، وربما كان للمسألة المصرَّح بها نظير يحمل عليها، وربما نظروا في علة الحكم المصرَّح به بالتحريج أو باليُسْرِ والحذق، فأداروا حكمه على غير المصرَّح به، وربما كان له كلامان، لو اجتمعا على هيأة القياس الاقتراني أو الشَّرطي أنتجا جواب المسألة؛ وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالمثال والقسمة غير معلومٍ بالحدِّ الجامع المانع، فيرجون إلى أهل اللسان، ويتكلفون في تحصيل ذاتياته، وترتيب حدٍّ جامع مانعٍ له، وضبط مُبهمهِ، وتمييز مشكله، وربما كان كلامهم محتملاً بوجهين، فينظرون في ترجيح أحد المحتملين، وربما يكون تقريب الدلائل خفيّا، فيُبيّون ذلك؛ وربما استدلَّ بعض المُخرِّجين من فعل أئمتهم وسكوتهم ونحو ذلك، فهذا هو التَّخريج؛ ويقال له: القول المُخرَّج لفلان كذا على مذهب فلان؛ أو على أصل فلان، أو على قول فلان، وجواب المسألة كذا وكذا، ويقال لهؤلاء: المجتهدون في المذاهب، وعنى هذا الاجتهاد على هذا الأصل من قال: من حفظ المبسوط كان مجتهداً! أي: وإن لم يكن له علم بروايةٍ أصلاً، ولا بحديثٍ واحد، فوقع التَّخريج ف كل مذهب، وكثر، فأيُّ مذهبٍ كان أصحابه مشهورين وسِّدَ إليهم القضاء والإفتاء، واشتهر تصانيفهم في الناس، ودرَّسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض، ولم يزل يُنشر كلَّ حين، وأيُّ مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يُولَّوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعض حين) انتهى.
* المصدر:
قواعد التحديث من علم مصطلح الحديث: الشيخ جمال الدين القاسمي.
طباعة
ارسال