عَنْ أبي حمزة أنس بنِ مالك رضي الله عنه – خادم رسول الله صلى
الله عليه وسلم – عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتَّى يُحبَّ
لأخيه ما يُحبُّ لنفسهِ». (رواه البخاري ومسلم).
الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث قتادة عن أنس ولفظ مسلم «حتى يحبّ لجاره
أو لأخيه» بالشك وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان
حتى يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه من الخير».
وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في الصحيحين، وأن المراد بنفي
الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته، فإن الإيمان كثيراً ما ينفى لانتفاء بعض أركانه
وواجباته، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزنى الزاني حين يزني المؤمن، ولا يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» وقوله «لا يؤمن من
لا يأمن جاره بوائقه».
وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر هل يسمى مؤمناً ناقص الإيمان أم يسمى
مؤمناً؟ وإنما يقال هو مسلم فليس بمؤمن على قولين، وهما روايتان عن أحمد رحمه
الله، فأما من ارتكب الصغائر فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية بل هو مؤمن ناقص
الإيمان ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك، والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له:
مؤمن ناقص الإيمان، مروىٌّ عنه جابر بن عبد الله وهو قول ابن المبارك وإسحاق وابن
عبيد وغيرهم، والقول بأنه مسلم ليس بمؤمن مروي عن جعفر محمد بن علي، وذكر بعضهم
أنه المختار عند أهل السنة، وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء: الإيمان كالقميص
يلبسه الإنسان تارة ويخلعه تارة أخرى، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره،
والمعنى: أنه إذا أكمل خصال الإيمان لبسه فإذا نقص منها شيء نزعه، وكل هذا إشارة
إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء، والمقصود أن من جملة خصال
الإيمان الواجبة أن يحبّ المرء لأخيه المؤمن ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه
فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي
هريرة: «أحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمناً».
وقد رتب النبي صلى الله عيه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة ففي مسند
الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال: «قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أتحبّ الجنة؟ قلت نعم، قال: فأحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك».
وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه
المؤمن، ويريد لأخيه ما يريد لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة
الصدر من الغشّ والغلّ والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في
خير أو يساويه فيه، لأنه يحبّ أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم،
والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من
غير أن ينقص عليه منه شيء، وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلوّ في
الأرض ولا الفساد فقال: ﴿تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا
فَسَادًا﴾
[القصص: 83].وعن علي رضي الله عنه قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود
من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وكذا روى عن الفضيل بن عياض
في هذه الآية قال: لا يحبّ أن يكون نعله أجود من نعل غيره، ولا شراكه أجود من شراك
غيره، وقد قيل: إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا بجرّد التجمل،
وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه،
فإن رأى في أخيه المسلم نقصاً في دينه اجتهد في اصلاحه، قال بعض الصالحين من
السلف: أهل المحبة لله نظروا بنور الله، وعطفوا على أهل معاصي الله، مقتوا أعمالهم
وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا على أبدانهم من النار، ولا
يكون المؤمن مؤمناً حقاً حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه، وإن رأى في غيره فضيلة
فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها، فإن كانت تلك الفضيلة دينية كان حسناً.وقد تمنى
النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلة الشهادة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو
ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناء الليل وآناء
النهار» وقال في من ينفق ماله في طاعة الله فقال: لو أن لي ما لا لفعلت فيه كما
فعل هذا، فهما في الأجر سواء.
وإن كانت دنيوية فلا خير في تمنيها كما قال تعالى:﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ79/28وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ
اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا...﴾ [القصص: 80].ومع هذا كله
فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية، ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من
هو فوقه وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته كما قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ المطففين: 26]
ولا يكره أن أحداً يشاركه في ذلك، بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ويحثهم على ذلك
وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان.
وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصراً عن الدرجات العالية فيستفيد
بذلك أمرين نفسين: الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها، والنظر إلى نفسه بعين
النقص وينشأ من هذا أن يحبّ لمؤمنين أن يكونوا خيراً منه، لأنه لا يرضى لهم أن
يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه بل يجتهد في صلاحها.
وإن علم المر أن الله قد خصه على غيره بفضل فأخبر به لمصلحة دينية وكان
إخباره على سبيل التحدّث بالنعم ويرى نفسه مقصراً في الشكر كان جائزاً، فقد قال
ابن مسعود: ما أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني.
ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به، فقد قال ابن عباس
رضي الله عنهما: إني أمر على الآية من كتاب الله فأودّ أن الناس كلهم يعلمون منها
ما أعلم.
وقال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليّ منه شيء.
وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أمره
وأعماله: أخرج إليّ ماء أو تمرات أفطر عليها، ليكون لك أجر مثل أجرى.
* * *
-
جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي.
طباعة
ارسال