لقد جاء الوعيد شديد لمن يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فيما تواتر عنه: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً:
"من حدَّث بحديث أو حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"رواه البخاري، ورد في "يرى" وجهان.. بضم الياء أو كسرها، وفي "الكاذبين" بفتح الباء أو كسرها.
ولهذا فالذي يروي حديثاً مكذوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يتيقن أن الحديث كذب فهو أحد الكذابين إن لم يبين حال الحديث، وإن لم يكن الراوي أو القائل هو الكاذب.
وقال الإمام مالك رحمه الله: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ. .
وقال الحافظ ابن حبان -رحمه الله-: في هذا الخبر الزجر للمرء أن يحدث بكل ما سمع، حتى يعلم على اليقين صحته ثم يحدث به دون ما لا يصح.
ولذا من يتحدث وهو شاك في صحة حديثه لا يكون صادقاً، وقد قال الإمام ابن حبان في ترجمة صالح بن أبي الأخضر في كتابه المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين:
إن من اختلط عليه ما سمع بما لم يسمع، ثم لم يرع عن نشرها بعد علمه بما اختلط عليه منها، حتى نشرها وحدث بها وهو لا يتيقن بسماعها لحري أن لا يحتج به في الأخبار، لأنه في معنى من يكذب وهو شاك، أو يقول شيئاً وهو يشك في صدقه، والشاك في صدق ما يقول لا يكون بصادق.
وقد قال علي رضي الله عنه: "لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل".رواه البخاري وغيره.
حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال:
فليعلم أولا أن المقصود بالضعيف هنا هو الضعف اليسير الناتج عن سوء الحفظ لا الضعف الشديد، وحديث المتروك والكذاب والمتهم، كما أن العلماء متفقون على عدم العمل بالضعيف في العقائد والأحكام إذ لا يثبت بالضعيف اعتقاد وحكم شرعي.
كما أن الضعيف لا يصدر بالجزم كــ قال ونحوه وإنما بصيغ التمريض المبني للمجهول كــ يُروى ويُحكى وقيل ونحوها.
وللعلماء في حكم العمل بالحديث الضعيف مذهبان:
1- جواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل بشروط، وهي:
أولاً: أن لا يكون الحديث شديد الضعف.
ثانيًا: أن يندرج العمل تحت أصل مشروع.
ثالثًا: أن لا يعتقد العامل به أن الحديث يثبت عن النبيصلى الله عليه وسلم.
رابعًا: أن لا يدعو إلى العمل به، فيظن الرائي أو السامع هذا الفعل ثابت عن النبيصلى الله عليه وسلم.
خامسًا: أن لا يكون الحديث في الأحكام والعقائد.
2- منعه بعض المحققين كابن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي بكر بن العربي، وابن حزم، ومن المتأخرين الشيخ أحمد شاكر والدكتور صبحي الصالح والشيخ الألباني.
وقال العلامة الألباني: الذي أدين الله به، وأدعو الناس إليه، أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا، لا في الفضائل ولا في المستحبات، ولا في غيرها؛ ذلك لأن الحديث الضعيف، إنما يفيد الظن المرجوح بلا خلاف أعرفه بين العلماء، وإذا كان كذلك فكيف يقال: يجوز العمل به، والله عز وجل قد ذمه في غير ما آية من كتابه العزيز.
فقال تعالى: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئًا﴾ (يونس: 36)، وقال: ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾ (الأنعام: 11).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث". أخرجه البخاري ومسلم.
ونقل صاحب كتاب(الأجوبة الفاضلة) عن المحقق جلال الدين الدواني أنه قال: (اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا يثبت به الأحكام الخمسة الشرعية ومنها الاستحباب).
قال الشيخ الألباني: وهذا هو الصواب؛ لما تقدم من النهي عن العمل بالظن الذي يفيده الحديث الضعيف، ويؤيده قول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (ص82):
(ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجبًا أو مستحبًا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع).
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة، ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه).
وقال العلامة أحمد شاكر (رحمه الله) في (الباعث الحثيث) (ص101):
(وأما ما قاله أحمد بن حنبل، وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالله بن المبارك: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا، فإنما يريدون به ـ فيما أرجح والله أعلم ـ أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن، لم يكن في عصرهم مستقرًا واضحًا، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو بالضعف فقط).
قال الشيخ الألباني (رحمه الله): (وعندي وجه آخر في ذلك: وهو أن يحمل تساهلهم المذكور على روايتهم إياها مقرونة بأسانيدها ـ كما هي عادتهم ـ هذه الأسانيد التي بها يمكن معرفة ضعف أحاديثها، فيكون ذكر السند مغنيًا عن التصريح بالضعف، وإما أن يرووها بدون أسانيدها كما هي طريقة الخلف، ودون بيان ضعفها، كما هو صنيع جمهورهم، فهم أجل وأتقى لله عز وجل من أن يفعلوا ذلك والله تعالى أعلم). اهـ. انظر مقدمة ضعيف الجامع (1/44 ـ 47).
ومما سبق يظهر أن تطبيق شروط من أجاز بالعمل بالضعيف لا يسهل تطبيقها إلا من المختصين والعلماء، إذ تحتاج إلى تمكن في علم الحديث ودرايته، وإنا نجد من يتساهل في الأحاديث بحجة كونها في الفضائل لم يلتزم بالشروط إذ يحتج بالمكذوب بل وبما لا أصل له البتة.
لذا فإن الراجح عدم العمل بالضعيف حتى في الفضائل؛ لأن الفضائل حكم شرعي فلو ثبت الحكم من غير الضعيف فلا حاجة له وإن ثبت الحكم من الضعيف فلا يصح اتفاقاً، ثم إن في الصحيح لغنية وكفاية عما في الضعيف، وهل نحن فرغنا من العمل بالصحيح حتى نلجأ إليه؟! والله الموفق.
* المصدر: جمعية السنة وعلومها.
طباعة
ارسال