الجواب:
العدل في اللغة كما قال ابن فارس في «مقاييس اللغة» (4/246): «المرضي المستوي الطريقة»، وفي الاصطلاح له عدة تعاريف ويعجبني تعريفه بأنه: من كان غالب حاله على الاستقامة.
ويكفي في ذلك معرفتنا الظاهرة باستقامته، وأما السرائر فأمرها إلى الله، قال الإمام البخاري: باب الشهداء العدول، وقول الله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) و (ممن ترضون من الشهداء)، ثم خرج حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2498) قال: «إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء؛ الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة».
فهذا دال على أن المعتبر في العدالة الحال الظاهرة للناس، وهذا الحديث أخذ بدلالته هنا عدد من أهل العلم كما صنع البخاري رحمه الله، وأخرج عبد الرزاق (8/319) من طريق منصور بن المعتمر قال: «قلت لإبراهيم: ما العدل من المسلمين؟ قال: الذين لم تظهر لهم ريبة»، وفي لفظ ابن أبي شيبة (4/424): «من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج»، وإسنادهما صحيح، وانظر مقدمة ابن حبان (1/151) عند ذكره شروط من يحتج بحديثهم.
وضابط ذلك ألاَّ يكون مرتكباً للكبائر، وأما الصغائر فلا أحد معصوم منها، ولذا لا يصح عدها من المفسقات بدليل قوله تعالى في مقام الثناء على عباده الذين أحسنوا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وخرج الشيخان (5889، 2657) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لم أر شيئاً أشبه باللمم من قول أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه)، فهذا دال على أن الصغائر لا يسلم منها أحد.
ورحم الله الإمام الشافعي حين قال: « لا أعلم أحداً أعطى طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام، ولا عصى الله فلم يخلط بطاعة، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح»، أخرجه ابن أبي حاتم في «مناقب الشافعي» (305) ومن طريقه الخطيب في «الكفاية» (1/270/رقم 215)، وانظر «الأم» (7/53).
وتثبت عدالة الرواة بتتبع سيرته وحياته وما أثر من أفعاله، أو بكلام معاصريه فيه، أو برواية واحد ممن عرف بالتثبت في الأخذ عن الشيوخ، وأما إن روى عنه من عرف بالأخذ عن كل أحد فهذا لابد أن ينضاف إليه رواية آخر، هذا أعدل ما قيل في المسألة إن شاء الله، فإذا انضاف إلى هذا ضبط الراوي صار ممن يحتج بحديثه، وأما إذا لم يثبت ضبطه فلا يطلق عليه وصف العدالة الموجبة لقبول الراوية، بل يرتفع عنه حكم الجهالة فقط.
وأنبه هنا إلى أن الفسق المعتبر المسقط للعدالة هو ما لا يحتمل الشبهة، فلا يجوز القدح بما فيه الشبهة، كما لو وجد من الراوي العمل بما يجوز عند بعض العلماء وخالفهم فيه غيرهم.
ويمثل أهل العلم لذلك بالاختلاف في النبيذ، مثل قول محمد بن إسحاق: «رأيت بريدة ابن سفيان يشرب الخمر في طريق الري »، فهذا علق عليه الحافظ أبو الفضل الدوري راوي «التاريخ» عن ابن معين فقال (1923): «والذي يظن ببريدة بن سفيان أنه شرب نبيذاً فرآه محمد بن إسحاق فقال: رأيته يشرب خمراً، وذاك أن النبيذ عند أهل المدينة ومكة خمر لا أنه يشرب خمراً بعينها إن شاء الله، فهذا وجه الحديث عندي».
وهنا نص مهم عن الإمام أحمد أختم به بحث ما سبق، قال أبو حاتم الرازي: «جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي الكوفة وسميت له عدداً منهم فقال: هذه زلات لهم ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم»، انظر: الجرح والتعديل (1/26)، ليرجع إلى كلام نفيس للإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الشهادات من «الأم» (6/206).
طباعة
ارسال