وربما لا يكون حديثنا ابتعاداً عن الموضوع إذا عرضنا هنا لناحية القصص في القرآن الكريم، فهذه القصص – كما يقول الشاطبي – لا يُراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص، وإنما هي عبرة للناس، كما قال تعالى في سورة هود، بعد ما ذكر موجزاً من سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة هود: 120]. ولذلك لا تُذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا يُراد فيها الاستقصاء.
وأفضل الفوائد وأهم العبر في هذه القصص هو التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية. ويقول الشاطبي: (وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخاً أن التاريخ شيء باطل ضار ينزه القرآن عنه، إن قصصه شذور من التاريخ، تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ).
ويجب أن نلاحظ أن هناك فرقاً كبيراً بين قصص القرآن والقصص التي يوردها المفسرون، فقصص القرآن حق لا شك فيه، وأما ما أورده المفسرون ففيه الحق والباطل، وقد توسع بعض المفسرين في إيراد ما يصح وما لا يصح من القصص، ويقول ابن خلدون عن المفسرين الناقلين للقصص والآثار: (وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعبوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوّق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى).
ويذكر أنهم كانوا لا يحتاطون في مثل هذه الأخبار، ويذكر من الذين ذكروا هذه الأخبار كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلاّم، كما يذكر أن التفاسير امتلأت من هذه المنقولات، وأن المفسرين تساهلوا فيها، وأن أبا محمد ابن عطية لخص هذه التفاسير، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، واشتهر تفسيره بين أهل المغرب، وتبعه القرطبي في تلك الطريقة، واشتهر كتابه بالمشرق، وهو يقصد كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، وهو مطبوع ومشهور.
وإنما المفسرون لا يرون كبير بأس في التوسع في ذكر هذه القصص، لأنها لا تتعلق بعقائد أو أحكام، ولكنها من قبيل الاعتبار والعظة، وغرس فضائل الأعمال، ويروى أن الإمام أحمد بن حنبل قال: (إذا روينا في الأحكام شددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا، فبالأحرى القصص).
وممن توسع في إيراد القصص في التفسير أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي النيسابوري صاحب (التفسير الكبير)، وكان كثير الحديث، كثير الشيوخ، توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة وقال عنه ابن خلكان: (كان أوحد زمانه في التفسير).
ويروي الحافظ الذهبي في (تذكرة الحفاظ) أن عبد الله ابن عمرو ( أصاب جملة من كتب أهل الكتاب، وأدمن النظر فيها، ورأى فيها عجائب)، كما وردت عنه أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة كما روى السيوطي.
وبعض الباحثين يقف في وجه القصص وقوفاً شاملاً مطلقاً، ويتعلل في ذلك بأن ابن حنبل قد قال: (ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير، والملاحم، والمغازي). ولكن يظهر أن الإمام ابن حنبل يتحدث هنا عن التفسير الموصول الأسباب بالأساطير وقصص الحروب التي يتوسع فيها رواتها، مما يحتاج إلى الغربلة والتصحيح، والتأكد من سلامة الرواية، ولعل الإمام ابن حنبل قد قال هذا لأنه شاهد أن كثيراً من القصص والأخبار المتعلقة بالملامح والمعارك ونحوها قد أضيفت إلى التفسير، فأخرجته عن دقته وتقيده بالرواية الصحيحة والبيان السليم المعقول.
ونقول هذا لأننا نستبعد أن ينفي ابن حنبل التفسير وقصصه نفياً عاماً شاملاً، إذْ وردت تفسيرات قرآنية للرسول ولصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
طباعة
ارسال