إن من أخلاق الإسلام المتميزة: إكرامَ أصدقاء الأبوين في حياتهما وبعد موتهما، والإحسانَ إلى صدقات الزوجة ولا سيما بعد وفاتها، وإكرامَ الأهل والعشيرة والمؤيدين للدعوة السامية إلى الله تعالى، وتقديرَ مواقفهم، فذلك يدلُّ على خلق الوفاء، وعدمِ النسيان للمعروف، وإظهارِ الغبطة والسرور برؤية من كان يحبهم هؤلاء في حال الحياة.
إن إكرام أصحاب الأب أو الأم والأقارب والزوجة وغيرهم من أجل الخير والإحسان: خلق إسلامي رصين، يقتضي الحفاظ عليه، لأننا نحن المسلمين، نقدر المعروف، ولا ننسى أهله، ونذكر أهل الفضل في وقت لا يشوبه رياء، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا تأثر بالمنفعة أو المصلحة، وهذا يدل على الإخلاص في المعاملة، والتجرد عن المنافع المادية، وهو موقف كريم، لا يفعله إلا كل ذي أصل كريم، ويتجلى هذا أيضاً بعد فراق الأصحاب في سفر أو مهمة، أو بعد فراق يحدث بين الزوجين بالموت أو بالطلاق، فهو عمل خيِّر، يدل على معدن أصيل، وأصل شريف.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة:2/237].
وقال سبحانه: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:2/195].
ونجد في السنة النبوية الشريفة تنبيهاً على خلق الوفاء هذا مع الأهل، وعلى وجود مواقف كريمة، تستحق الذكر والحفظ والعمل بها. فمن مذكِّرات النبي عليه الصلاة والسلام: ما رواه أبو داود عن أبي أُسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سَلِمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويَّ شيء أبَرُّهما به بعد موتهما؟ فقال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما». أي إن برّ الأبوين بعد موتهما يكون بالدعاء لهما والاستغفار لهما، بأن ندعو بما علَّمنا القرآن الكريم: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:17/24]. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [إبراهيم:14/41]. وكذلك يكون برّهما بتنفيذ وصيتهما، وصلة أرحامهما، وإكرام صديقهما.
وروى مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله بن عمر، وحَمَله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدّاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبرَّ البرِّ صلةُ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه».
وهذا موقف كريم من ابن عمر، يدل على أن برَّ الأبوين بعد موتهما يكون بصلة صديقهما، ومحبةِ أصحابهما بعد موتهما، والإحسانِ إليهم مؤانستِهم.
ومن المواقف المأثورة في هذا: موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصدقاء زوجته خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها.
ورد في الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرْت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يُكثر ذِكْرها، وربما ذبح الشاة، ثم يَقْطعُها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأن لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فيقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها وَلَد».
وفي رواية: كان إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة».
وفي رواية استأذنت هالة بنت خويلد أختُ خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك، فقال: «اللهم هالة بنتُ خويلد».
وهذا موقف نبوي يدل على محبة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة، ووفائه لذكراها، لفضلها في مؤازرة دعوته، وتقديره ووفائه لها بعد موتها.
وموقف آخر للصحابة من آثار التربية النبوية العالية، واستقرار الوفاء خلقاً أصيلاً شائعاً بينهم. وجاء في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «خرجت مع جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه في سفر، فكان يخدُمني فقلت له: لا تفعل، فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، آليت على نفسي ألا أصحب أحداً منهم إلا خَدَمتُه». وهذا يدل على فضل جرير بن عبد الله وتواضعه، وخدمته من كان أصغر سناً منه، وهو أنس ابن مالك، رضي الله عن الصحب الكرام جميعاً، وجعلهم في أعلى جنان الفردوس، حيث كانوا هم الصفوة العالية من مدرسة النبوة.
* المرجع:
- أخلاق المسلم: د. وهبة الزحيلي.
- خلق المسلم: الغزالي.
- الآداب الإسلامية: محمد بن مفلح.
طباعة
ارسال