لقد أفردت هذه الشبهة بالعرض على الرغم من اندراجها في الشبهة الثالثة (عند الحديث عن وقوع بعض المعاصي من بعض الصحابة)، لأن هذه الشبهة المتعلقة بالقذف تستند على الحكم الشرعي المتعلق برد شهادة المحدود في القذف، وهي مسألة فقهية خلافية معروفة، ولقد أورد هذه الشبهة في زماننا المعاصر أحد أهل العلم ممن له سابقة علم وفضل، وأنا أنقل ما ورد عنه وأكدَّه وأصر عليه في إحدى الصحف الرسمية اليومية ودافع عنه في مقالات لاحقة رداً على ردود بعض العلماء الأفاضل، حيث جرح صاحب هذا القول الصحابي الجليل أبا بكرة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في مقاله الذي نشر في جريدة الوطن الكويتية يوم السبت بتاريخ 29/5/2004م تحت عنوان (نظرة في الأدلة الشرعية حول مشاركة المرأة في الوظائف الرئاسية والمجالس النيابية ونحوها) ومما جاء فيه:
( ....ولذلك جلد عمر ـ رضي الله عنه ـ أبا بكرة ثمانين جلدة حد القذف بالزنى.. ثم قال له: تب أقبل شهادتك ، فأبى أن يتوب وأسقط عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك شهادته، فكان أبو بكرة بعد ذلك إذا استشهد على شيء يأبى أن يشهد، ويقول: إن المؤمنين قد أبطلوا شهادتي .وقد قال الله تعالى في آية لاحقة: ﴿لَوْلَا جَآؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13]. أي: أنهم في حكم الله تعالى كاذبون لا يثبت بقولهم حق.
هكذا حكم الله تعالى على من قذف محصناً، وهذا منطبق على أبي بكرة، فإن الآية تدمغه بالفسق وبالكذب، وهذا يقتضي رد ما رواه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما انفرد به كهذا الحديث العجيب: «لن يفلح قوم تملكهم امرأة» فينبغي أن يضم هذا الحديث إلى الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم).
نعم.. هكذا وبكل بساطة يتم طعن هذا الصحابي الجليل بالفسق والكذب، وتُرد مروياته بل وتنسب الأحاديث الموضوعة المكذوبة إلى صحيح البخاري، والأعجب من هذا أنه عفا الله عنا وعنه يصر في مقالة تالية على تأكيد قوله هذا، بل ويدعي أن الإمام البخاري نفسه قد طعن في هذا الصحابي الجليل، وهذا ما أورده في مقال تال حيث قال: (وقال بعض أصحاب الردود: من سبقك يا شيخ إلى الطعن في هذا الصحابي الجليل؟ فأقول: قد سبقني إليه البخاري نفسه، حين روى في كتاب الشهادات من صحيحه باب: (8) أن عمر رضي الله عنه جلد أبا بكرة ومن معه الذين اتهموا المغيرة ورد شهادتهم ما لم يتوبوا، أليس هذا إسقاطاً لعدالتهم؟).
والحقيقة إن هذه الأقوال في غاية الخطورة، واللوازم التي ينتهي إليها صاحب هذا القول إنما هي نسف للسنة الصحيحة وحجيتها وهي لوازم تكفي ببطلانها للشهود على بطلان هذه الشبهة، ومع ذلك نرد عليها باختصار.
* جواب الشبهة:
بدايةً أقول إن بعض العلماء المعاصرين قد قام بالرد على هذه الشبهة بتفصيل لا مجال لنقله هاهنا، ثم أثني بالإحالة على ما تقدم في جواب الشبهة الثالثة فإن كل ما يرد في الرد هناك يرد في هذا الموضع ، ولقد أوردنا نماذج ممن حدَّ في القذف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يخرج عن وصف العدالة، ثم نزيد الجواب في هذا الموضع بما يلي:
أجمع أهل الحديث وأئمة الجرح والتعديل على عدالة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأبوبكرة رضي الله عنه وأرضاه من الصحابة لا يختلف في ذلك أحد من أهل هذا العلم، فهو إذاً داخلٌ في كل نصوص الكتاب والسنة وإجماع من نقلنا عنه الإجماع على عدالة الصحابة جميعاً، ولا دليل يقوى على معارضة هذه النصوص أو تخصيصها بمن سواه.
والعجيب أن صاحب هذا القول ينص في جملة كلامه على ما يلي: (إن عدالة الصحابة رضي الله عنهم هي الأصل الذي لا خلاف فيه، لا يعني أنه إذا وقع من واحد منهم ما يقتضي انتقاض عدالته فإنه يبقى عدلاً) ، وهذا كلام لا يصح لأن ثبوت عدالة الصحابة جاء بالخبر الشرعي الصحيح الذي لا يدخله النسخ ولا يحتمله، إلا أن يقال إن الله تعالى حين أخبر بعدالة جميع الصحابة لم يكن عالماً – سبحانه وتعالى عن ذلك – بما سيقع ببعض منهم من أمور تقتضي مخالفة الحكم الذي أخبر به الله تعالى، ولا يخفى ما في هذا القول من فساد وبطلان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
إن جميع من ترجم للرجال والثقات وطبقات الصحابة قد ذكر هذا الصحابي الجليل وذكر فضله وعدالته ولم يتعقب أحداً من الأئمة الذي خرجوا حديثه، وأنا أنقل بعضاً من أقوال أهل العلم فيه رضي الله عنه وأرضاه:
قال العجلي رحمه الله: (نفيع أبو بكرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بَصري وكان من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال الحافظ ابن عبد البر: (وكان ممن اعتزل يوم الجمل، لم يقاتل مع واحد من الفريقين، وكان أحد فضلاء الصحابة، قال الحسن: لم يسكن البصرة أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمران بن حصين وأبي بكرة).
وأخرج الحافظ المزي عن الحسن البصري قال: (لما حضرت أبابكرة الوفاة قال: اكتبوا وصيتي، فكتب الكاتب: هذا ما أوصى به أبو بكرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكرة: أكتني عند الموت، امح هذا واكتب: هذا ما أوصي به نفيع الحبشي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشهد أن الله ربه، وأن محمداً نبيه، وأن الإسلام دينه، وأن الكعبة قبلته، وأنه يرجو من الله ما يرجوه المعترفون بتوحيده، المقرون بربوبيته، الموقنون بوعده ووعيده، الخائفون لعذابه، المشفقون من عقابه، المؤملون لرحمته، إنه أرحم الراحمين).
تناقض صاحب هذا القول في حكمه على أبي بكرة رضي الله عنه: فقد وصفه تارةً بأنه: (صحابي جليل)، ووصفه تارةً أخرى بأن: (الآية تدمغه بالفسق والكذب).
ومن الواضح أن اجتماع هذين الوصفين هو من قبيل اجتماع المتناقضين، لا سبيل إلى تصوره فضلاً عن قبوله.
ووجه ذلك أن وصف الصحبة في نصوص الشريعة أصبح عَلَماً على العدالة والتزكية والترضية من الله عز وجل، فكيف يُرمى من هذا وصفه بالفسق والكذب الدامغين!
تناقض دعوى صاحب هذا القول في دعواه طعن الإمام البخاري رحمه الله في هذا الصحابي الجليل: فقد ادعى – كما تقدم في عرض الشبهة – أن الإمام البخاري سبقه إلى الطعن في هذا الصحابي الجليل، ثم استشهد لهذه الدعوى الباطلة بما أخرجه له الإمام البخاري في حديثه، وجواب هذا من وجهين:
* أولهما: إن ما نسبه إلى الإمام البخاري رحمه الله ليس فيه تصريحٌ باتهام الإمام البخاري لأبي بكرة رضي الله عنه، بل غاية ما فعله الإمام البخاري أنه روى فعل عمر رضي الله عنه وهو إقامة حد القذف لعدم اكتمال نصاب الشهود. فلا يصح نسبة هذا الطعن إلى الإمام البخاري.
* ثانيهما: إن ادعاء أن الإمام البخاري قد طعن في أبي بكرة مع العلم بأن الإمام البخاري رحمه الله قد خرَّج له حديثه في صحيحه هو محض التناقض؛ إذ كيف يطعن الإمام البخاري في راوٍ ثم يخرج له حديثاً في صحيحه !!
ترك قول الجمهور والركون إلى قول الحنفية في مسألة رد شهادة المجلود بالقذف: إذ رجح صاحب هذا القول مذهب الإمام أبي حنيفة في رد شهادة المجلود بالقذف حيث قال: (إن مذهب الحنفية أن المجلود في الحد مردود الشهادة، فهذا شامل لأبي بكرة رضي الله عنه).
قلت: وهذا القول عن الحنفية صحيح ولكنه خلاف الجمهور.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة فلا يُردُّ خبره، لأن نقصان العدد ليس مِن فِعله، ولهذا روى الناس عن أبي بكرة واتفقوا على ذلك، وهو محدودٌ في القذف. وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تُقبل روايته حتى يتوب).
وحيث إن صاحب هذا القول قد طعن في شهادة وعدالة أبي بكرة بناء على قول الحنفية أنه لا تُقبل شهادة المجلود في القذف ولو تاب، فيلزمه أن يطعن في عدالة غيره من الصحابة الذين جُلدوا الحد في القذف كحسان بن ثابت رضي الله عنه، ولا يسعفُه أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد تاب بناءً على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فهل سيطعن صاحب هذا القول أيضاً في حسان بن ثابت رضي الله عنه وقد تقدم ما تقدم من فضائله وتأييد جبريل عليه السلام له ؟!
ومعلوم أن البخاري رحمه الله قد أخرج لحسان في صحيحه أيضاً.
قال الكلاباذي رحمه الله: (روى عنه أبو سلمة بن عبدالرحمن في الصلاة وفي الأدب) ، فإذا كان حسان بن ثابت عدلاً عند صاحب هذا القول فهو محض التحكم، وإن لم يكن عدلاً عنده فقد بان لكل عاقل مدى خطورة هذا المسلك الذي يسلكه ووعورة الطريق الذي يتنكبه، نسأل الله العافية.
وأخيراً، إذا كان صاحب هذا القول يميل لرأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله فليأخذ بهذا القول عنه رحمه الله: (ولا تتبرأ من أحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توالي أحداً دون أحد)، فإن هذا هو صريح قوله رحمه الله، ومعتقده هذا عام في الصحابة كلهم لم يستثنِ منهم أحداً أو يدمغه بفسق أو كذب.
إقامة الحد على أبي بكرة رضي الله عنه حكم قضائي لا يلزم منه مطابقة الحكم الدياني: فقد قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وقصة عمر مشهورة في جلده أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد لشهادتهم على المغيرة بالزنى ثم استتابهم فأبى أبو بكرة أن يتوب وتاب الآخران فكان إذا جاءه من يشهده يقول قد فسقوني، قال البيهقي إن صح هذا فلأنه امتنع من التوبة من قذفه وأقام على ذلك.
قلت: كأنه يقول لم أقذف المغيرة وإنما أنا شاهد فجنح إلى الفرق بين القاذف والشاهد إذ نصاب الشهادة لو تم بالرابع لتعين الرجم ولما سموا قاذفين).
فيظهر من قوله رضي الله عنه (قد فَسَّقوني) إنكاره ذلك عليهم لأنه يعلم – في نفسه– أنه لم يكن قاذفاً، وانقياده لقضاء عمر رضي الله عنه كان انقياداً للحكم القضائي، وهو يعلم في نفسه أنه صادق فلم يجز له أن يتوب لأنه بذلك كأنه يكذب بالنسبة لما يعلمه هو.
وبيان ذلك أن حكم القاضي القائم على منهج الشرع من حيث طلب الشهود أو البينة قد يوافق الحق في نفس الأمر وقد لا يوافقه، وقد جعل الشرع المكلفَ حجةً على نفسه في ذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها».
فحكم الحاكم يكون بما ظهر له، ولا يغير حقيقة الأمر في نفس الأمر، ولا يبيح للمكلف تغيير ما يعلم أنه الحق في نفسه ولو كان القضاء بخلافه، ولقد روى الإمام ابن حزم بعد ذكر جلد عمر بن الخطاب لأبي بكرة والشاهدين الآخرين: «فقال أبوبكرة: ألستم قد جلدتموني؟ قالوا: بلى. قال: فأشهد بالله ألف مرة لقد فعل. فأراد عمر بن الخطاب أن يجلده الثانية، فقال علي بن أبي طالب: إن كانت شهادة أبي بكرة شهادة رجلين، فارجم صاحبك وإلا فقد جلدتموه».
فهذا كله مع ما أحلنا إليه من أجوبة الشبهة الثالثة تجلي وجه الحق في المسألة، ولا معنى لكون الأمة قد غفلت عن حكم هذا الصحابي الجليل مدة أربعة عشر قرناً ثم جاء في آخر زمانها من يستدرك عليها مثل هذا الحكم، فمعنى هذا أن الأمة كانت تتعبد الله تعالى خطأً بهذه الأحاديث التي رماها صاحب هذا المقال بالوضع، فأي صيانة وحفظ للدين هذه إذا كان الله تعالى قد ترك الأمة هذه القرون الطويلة المتتابعة يتعبدونه بما هو موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن فساد هذه اللوازم بيِّنٌ ظاهر، ولولا انتشار وسائل الإعلام وسرعة تطاير الناس بأمثال هذه الشبهات لما كان كثير طائل في تكلف الرد عليها، والله المستعان.
* المرجع:
- حجية الصحابة في أصول الدين: د. وسيم فتح الله.
طباعة
ارسال