من خلال اهتمام العلماء المسلمين بظاهرة السوق، وما يجري فيها، نعلم المكانة المرموقة للسوق في ظل الاقتصاد الإسلامي، ولو أخذنا نماذج من أقوالهم لتبين المراد.
ولعل من أوائل الفقهاء الذين تحدثوا تفصيلاً عن الأسواق، هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، حيث ذكر أن الله تعالى خلق أولاد آدم- عليه السلام- خلقاً لا تقوم أبدانهم إلا بأربعة أشياء: الطعام والشراب واللباس والسكن، وقدّر لهم المعاش بأسباب فيها حكمة بالغة، أي أن كل أحد لا يتمكن من تعلّم جميع ما يحتاج إليه في عمره، فلو اشتغل فني عمره قبل أن يتعلم، وما لم يتعلم لا يمكنه أن يحصله لنفسه، فيسّر الله تعالى على كل واحد منهم تعلّم نوع من ذلك، وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، وقد أشار الإمام الشيباني في معرض ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾[الزخرف:32].
وفسرها بأن الفقير محتاج إلى مال الغني، والغني محتاج إلى عمل الفقير، والنسّاج محتاج إلى عمل الزارع لتحصيل الطعام الذي يكون معيناً له ولغيره، ويدخل في ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2].
وقد ذكر الإمام الشيباني أربعة أنواع للكسب، وهي الإجازة والزراعة والتجارة والصناعة، وقال: إنها في الإباحة سواء عند جمهور الفقهاء، ثم شرع الإمام في الحديث عن أمور السوق وما يترتب عليها من أحكام، وما يجب القيام به لمنع الغش و....
وهكذا، فكل فرد خُلق ليقوم بعمل ما، ومن ثم فنتاج هذه الأعمال لا بد لها من معارضة، وهذا التقسيم في العمل والتخصص فيه يستدعي قيام أسواق للمبادلة بين أفراد.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: إن على التاجر أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعات والتجارات لو تركت بطلت المعايش، وهلك أكثر الخلق، فانتظام أمر الكل بتعاون الكل، وتكفّل كل فريق بعمل، ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا، وعلى هذا حمل بعض الناس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أمتي رحمة» أي اختلاف هممهم في الصناعات والحرف.
أما الإمام ابن تيمية رحمه الله فقال: وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر.... فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه، وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم الثياب ما يكفيهم، احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب، ولا بد لهم من الطعام إما مجلوب من غير بلدهم وإما زرع بلدهم وهو الغالب، وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها فيحتاجون إلى البناء.
ثم يتحدث في مكان آخر عن كيفية معارضة إنتاج الناس بعضهم مع بعض/التجارة/ وضرورة ذلك فيقول: وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورة الدين والدنيا، إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه، وهذا لهذا ما يحتاج إليه، لفسد الناس، وفسد أمر دنياهم ودينهم، فلا تتم مصالحهم إلا بالمعارضة، وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب، وبعث به الرسل، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25].
ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعارضة لحاجتها إليها.
وأما العلامة ابن خلدون- رحمه الله- فيتحدث في عدة مواضع من مقدمته عن السوق ومكانته وضرورته، ويرجع الأمور إلى فطرة الإنسان وطبيعته المدنية فيقول: وبيانه أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وركّبه على صورة لا تصح حياته وبقاؤه إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يومه من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري.... فهو أيضاً يحتاج في تحصيله... إلى أعمال أخرى أكثر من هذه آلات متعددةٍ وصنائع أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن تفي بذلك كله أو بعضه قدرة الواحد، فلا بد من اجتماع القُدَرِ الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه... فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنس... وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة وتمت حكمة الله في بقائه....
إذاً: هناك شبكة علاقات بين بني البشر، أقامها الله على نظام دقيق، بحيث لن يستطيع الواحد منهم القيام بكل ما يحتاج في حياته، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن....
فكان لا بد أن يختصّ كل واحد منهم بعمل ما، ويختص الآخر بعمل آخر، وهكذا، حتى نجد أن كل واحد يتقن صنعته ويحبها، لكن هذا التخصص والتقسيم في العمل يفرض دائماً وأبداً ظهور ليتبادل فيها الناس إنتاجهم، ليعرض المزارع محاصيله، ويعرض النجار عمله، وهكذا كانت الأسواق التجارية، وهكذا كان بين تقسيم العمل وظاهرة المبادلة علاقة منطقية وواقعية، وقيام الأسواق في الماضي والحاضر دفع علماء الشريعة ومن ثم علماء الاقتصاد إلى دراسة ظاهرة الأسواق دراسةً دقيقةً، فركزوا على مدى أهميتها للفرد والجماعة، ومن ثم وضعوا ورتبوا الآداب التي تختص بالأسواق، وحللوا موضوع البيوع تحليلاً مفصلاً، خاصةً في كتب الفقه، محذرين من بعض أنواع البيوع والتي تدخل في باب التحريم.
ومن ثم نجد أن الدولة في ميزان الشريعة لها الحق في وضع لوائح تضبط فيها العمليات التي تتم في تلك الأسواق، وذلك حفاظاً على المصلحة الخاصة والعامة، وتمشياً مع الدستور القرآني والسنة النبوية وبقية مصادر الشريعة.
طباعة
ارسال