لا ينفكُّ الطبيب يتعامل مع زملاءٍ له في الدراسة والمهنة، فهو تارةً يلتقي بهم في مجالس الدرس والتعلُّم، وتارة يلتقي بهم في تدبير بعض المرضى، فلا يكاد يخلو عمل الطبيب أبداً من تعاملٍ مع غيره، فكان لا بد لهذا التعامل من ضوابط وآداب ينضبط بها، ولسوف أتناول بعضها فيما يلي:
1- براءة الصدر من الغلِّ والبغض والحسد.
وهي – أي البراءة مما تقدم - من أصعب الأخلاق تكسُّباً لمن لم يُجبَل على شيءٍ منها، وهي مع ذلك قابلة للاكتساب، ومحل التكسب منها هو الأخذ بالأسباب والمقدمات الموصلة إليها، فما من خُلُقٍ محمودٍ جِبلَّةً وطبعاً إلا وللمسلم طريقٌ إلى تكسبه، كما دلَّت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ﴾ [سورة آل عمران: 200] فأمر بالمصابرة لمن لم يكن له الصبر طبعاً منقاداً، فتنبَّه.
ولكن قبل الحثِّ على أخذ أسباب الارتقاء بالنفس إلى مدارج هذه الأخلاق، لا بد لنا من تقريرها والنظر في مكانتها في شرعنا الحنيف، فأما التبرُّؤ من الغلِّ فأخذناه من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَآؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا ً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة الحشر: 10]، وأما النهي عن البغض فمن نهي النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَبَاغَضُوا» صحيح البخاري ، وأما النهي عن التحاسد فمن توجيه الشرع بالاستعاذة من شرِّه: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [سورة الفلق: 5]، وحديث: «وَلَا تَحَاسَدُوا»، وقد يُشكِل عليك هاهنا حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ ؛رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالَاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» صحيح البخاري ، إذ قد ورد النهي العام على الحسد في موضعٍ وأبيح في موضعٍ آخر، والحقيقة أنه لا إشكال أو تعارض البتة، فبالتدبُّر في سياقات النصوص تدرك أن الحسد المنهي عنه بإطلاقٍ هو الحسد المذموم الذي يقوم على تمنِّي زوال النعمة عن الغير وعدم الرضا بما فضَّل الله به بعضاً على بعض، أما الحسد الجائز فهو ما كان من جنس تمنِّي نظير النعمة المشهودة دون طلب زوالها عن الغير، وبدافع الاقتداء بذلك الغير في فعل الخير والتقرُّب بالطاعة إلى الله تعالى، وهو ما يصطلح عليه البعض بالغِبطة، وقد يقوى القول على اقتصار الجواز على ما ورد في النص وهو العلم والمال المصروف في موارد الخير، والشاهد هنا أن مجال العمل الطبي تتفاوت فيه القدرات والإنجازات والمناصب فلا يكون ذلك مدعاةً للتلبُّس بهذه الأخلاق المذمومة، بل يحوِّل الطبيب جهده وسعيه نحو التنافس المشروع في باب الخيرات.
2- الحب في الله.
ومدار هذا الحب على التجرُّد الخالص لله تعالى بحيث يدور هذا الحب مع الطاعة والمعصية زيادةً ونقصاناً على الترتيب.
ومعنى هذا أن الطبيب المسلم يزداد حبُّه لأخيه الطبيب المسلم كلما كان هذا الآخر ملتزماً بأمر الله عابداً طالباً مرضاته، يسعى على مصالح المرضى المسلمين، ويغار على صحَّتهم ودينهم، ويسهر على تخفيف آلامهم، فكلما كان الطبيب المسلم متفانياً في هذا كله كلما أوجب له مزيد محبَّةٍ في نفوس إخوانه الأطباء، والعكس صحيح فكلما كان الطبيب مهملاً لمرضاه غير قائمٍ على تقوى الله فيهم، كلما نقص حبُّه بل ربما شرع بغضه في الله، فتأمل هذا وقارنه مع ما يقع –للأسف– بين الأطباء أحياناً من علاقات وروابط أساسها المصالح الدنيوية والارتقاءات الوظيفية والمصالح الشخصية.
3- احترام الطبيب أسبقيَّة إخوانه في العلم والعمل.
فمن المعلوم أن سياق التعلم والممارسة الطبية يستلزم نوعاً من العرض العلمي أحياناً، ومراجعة بعض الحالات المرضية النادرة ونحو ذلك، وهذا قد يأتي في صورة عرض حالة مرضية أو مراجعة حالة مستعصية، فلا يجوز والحال كذلك للطبيب المسلم أن يعمد إلى حالة مرضية ما قد سبقه إليها زميله فيقدمها ويعرضها بدلاً منه، فإن هذا قريب من البيع والخطبة على بيع وخطبة أخيه المنهي عنها في السنة المطهرة، فقد قال أبو هريرة يأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ حَتَّىٰ يَنْكَحَ أَوْ يَتْرُكَ» صحيح البخاري.
كما يحرص الطبيب على عدم السرقة العلمية لجهد الغير فإن ذلك داخلٌ في الغشِّ المحرَّم. والسرُّ في كل ما تقدم يعود إلى سدِّ الذريعة المؤدِّية إلى التباغض والتشاحن بين إخوة الدين، فتنبَّه لذلك واتَّخذه ضابطاً لسلوكك، فكل ما أدَّى إلى التباغض بين المسلمين حالاً أو مآلاً فإن الشريعة تنهى عنه وتبغضه.
4- عدم كتم العلم.
فالعلم إنما يسَّره الله تعالى لينتشر بين الناس فيعوه، ويهتدوا به إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيمٍ فيلتزموه، فأصبح لزاماً علينا أن نعمل على نشر العلم الصحيح، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ، ثُمَّ كَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» [سنن الترمذي، وقال أبو عيسى: «حديث حسن»]، ولا يخفى مدى ذمِّ وتوبيخ أهل الكتاب لكتمهم العلم الذي آتاهم الله تعالى: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [سورة آل عمران: 187]، والثمن القليل الذي يسعى وراءه الطبيب بكتم علمه لا يخرج عن عرضٍ من أعراض الدنيا وهوى من أهواء النفس المريضة؛ فهو يكتم علمه ليتفوَّق على زملائه أو ليحتكر صنعة يعرفها أو ليتفرَّد بمركز علميٍّ ما، وهي أغراض لَعمري رخيصة في عين من يستحضر ميثاق الله تعالى الذي أخذه على أهل العلم الشرعي أصالةً – وعندي أن أهل كل علم مشروع يدخلون فيه تبعاً- فاحذر أيها الطبيب المسلم من نكث العهد ومن استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، واعلم أن هذا الأصل يلازمك في شتَّى مراحل حياتك المهنية الطبية من مرحلة العلم والتعلُّم إلى مرحلة العمل والخبرة ، وإن شرَّ العلماء من يحبسون علمهم ليموت بموتهم ويفقد بفقدهم.
وأشير في هذا المقام إلى مدى الشطط الذي بلغته «الحضارة» الغربية فيما اصطلحوه من «حقوق التأليف والاختراع» بحيث صارت بعض العلوم محتكرة على أصحابها رغم شدَّة حاجة الناس إليها، ولست أنكر حقَّ المخترع والمؤلِّف بالكلية وإنما أشير إلى روعة الإسلام في إهدار النفع الخاص عندما تؤدِّي مراعاته إلى الضرر العام، وانظر على سبيل المثال احتكار شركات الدواء لحقوق تصنيع بعض الأدوية وبالتالي التحكُّم بأسعارها واستغلال احتكارهم هذا لنفعهم الخاص.
5- الستر على زملائه الأطباء.
إن من المعلوم أن مجال الطب مجال اجتهادٍ واسعٍ، وقد يجانب الطبيب التوفيق أحياناً في اختيار علاج أو تشخيص حالة أو قد يستعصي عليه الأمر بالكلية، بل قد تقع منه أخطاء يسيرة لا تضرُّ في نفس الأمر، فيجب على الطبيب الذي يقع على شيءٍ من أخطاء زملائه التي لا تضرُّ في نفسها أن يستر على أخيه بما لا غشَّ فيه للمريض ولا ضرر، بخلاف ممارسة بعض الأطباء الذين لا يلبثوا أن يكتشفوا زلَّةً يسيرةً لطبيبٍ آخر حتى يبادروا إلى تجريحه واتِّهامه في علمه وفهمه وتوهين ثقة المريض به، ويتظاهر هذا المجرِّح بأنه يريد مصلحة المريض بل ووجه الله أحياناً، وهو في حقيقة الأمر لا يريد إلا إسقاط ذاك الطبيب من عين المريض، عسى أن يعزِّز ذلك التجريح من مكانته هو في عين المريض والمجتمع، وغاب عن هذا المسكين فضلٌ عظيمٌ هو خيرٌ له من حطام الدنيا الذي يلهث وراءه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» صحيح البخاري.
وأعود فأنبِّه إلى أن محلَّ الستر ها هنا هو فيما لا يضرُّ بالمريض مما هو مسلكٌ سائغٌ في مجال الطب وإن كان خلاف الأولى، أو كان خلاف مسلك طبِّي آخر مما هو مغتَفَرٌ في نفس الأمر، أما إذا كان الخطأ مما يضرُّ بالمريض أو يستلزم كشفه له فمحل الستر هنا هو عدم الإفراط وتجاوز الحدِّ في اتِّهام الطبيب، وإنما البيان على قدر الحاجة، فتنبَّه إلى هذا الخُلُق فإنه بين الأطباء اليوم نادرٌ جداً.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن طبيعة تصرفات الطبيب وما يترتَّب عليها من أمورٍ تؤثِّر على كثيرٍ من الناس، توجب على معاشر الأطباء أن يكون كلٌّ منهم عوناً لأخيه، ينبِّهه حين يغفل ويصوِّبه حين يَزِلُّ، وما ذلك إلا تفادياً للعواقب الوخيمة الناجمة عن رؤية الخطأ والسكوت عنه، ولا يستشكل هذا مع ما سبق من خُلُق الستر، فقد بيَّنَّا أن ضابط الستر هو فيما لا يضرُّ بالمريض، بحيث يستر على الزلَّات اليسيرة لزملائه الأطباء التي لا يترتَّب عليها ضررٌ وإنما تكون تفويتاً للأكمل والأفضل، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو بين الطبيب وأخيه الطبيب، وإنما اصطلحت على هذا السلوك التناصحي الإصلاحي في ميدان المهنة بالاصطلاح الشرعي المشهور «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ليتقرَّر في نفس كلِّ طبيبٍ مسلمٍ أن هذا التعامل المهني الراقي هو من جنس هذا الواجب الشرعي، فيجب أن ينطلق من نفس الدوافع ويتأطَّر بنفس الأطر وتراعى فيه نفس المصالح والمفاسد؛ وتوضيحاً للأمر أقول: إن توجيه الطبيب المسلم أخاه إلى سلوكٍ مهنيٍّ صحيحٍ أو تنبيهه على خطأ أو زلَّةٍ مهنيَّةٍ يجب أن يكون منطلقاً من دافع الحرص لا من دافع التجريح والإحراج، كما يراعى فيه اللين واللطف والأدب بعيداً عن ألفاظ الأذى والتسفيه والتجهيل، كما أن اختيار ما يوجَّه أو ينبَّه إليه يجب أن يكون مما تترتَّب عليه مصلحة أو يندفع به أذى لا أن يكون نقداً لمجرَّد النقد، وبمثل هذه الأخلاق يتجرَّد الطبيب المسلم من داعية هواه ويحتسب على هذا العمل مثل ما يحتسب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشرعي من الأجر والمثوبة إن شاء الله.
* المرجع:
- كتاب حلية الطبيب المسلم: الشيخ الطبيب وسيم فتح الله.
طباعة
ارسال