كثيرة هي الأشياء التي يراها الإنسان في نومهم، يرون عجائب وغرائب، ويذهب الناس في أحلامهم ورؤاهم مذاهب شتى بين مصدق ومكذب ، وموقن ومتشكك . لكن المؤمن يقف منها الموقف الذي بينه الإسلام القويم. وجلّى لنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حقيقة ما يرى الإنسان في منامه بقوله:الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله، وحديث النفس، وتخويف من الشيطان.
إذن نحن أمام يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وهو غلام غض الإهاب يغدو على والده وفي عينيه عجب يقصّه على والده في سورة يوسف/4 :﴿إنّي رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾.
ثم تصور هذا المشهد: الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا تسجد لهذا الغلام !أهذا حديث النفس، ومن ذا الذي يحدث نفسه بمثله؟ أهو من الشيطان ليحزن رائيها ؟ فماذا تكون ؟ إنّ وراءها لسراً ؟ ويفهم نبي الله يعقوب عن الله عزّ وجلّ ما أراه ليوسف ؟ وتستيقظ في نفس يعقوب كل دواعي الحب لولده الأثير لديه، والخوف عليه إنها بشرى بنعمة، وكل ذي نعمة محسود فليستعن بالله وليكتم ما رأى حذرا من كيد أخوته وتحريض الشيطان لهم عليه ، وتتبدى لنا في هذه المخاوف صورة لواقع بشري كثير التكرار صورة العلاقة بين الأخوة، كما جاء في سورة يوسف /5 :﴿قال يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا إنّ الشيطان للإنسان عدو مبين﴾.
ولم يكد الأخ لأخيه ؟ إنّها النفس البشرية الأمارة بالسوء، ويبشر الأب ابنه بمدلول رؤياه ويسكن مخاوفه من كيد إخوته، فإنّ له عاقبة وشأنا وسيكون لآل يعقوب من تلك النعمة نصيب، يقول تعالى في سورة يوسف /6: ﴿وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحق إنّ ربك عليم حكيم﴾ .
ولم يكن لمصر أن تسير إلى يوسف ليكون فيها عزّيزاً ، بل لابد أن يسير هو إليها، وإذا أراد تعالى شيئاً هيأ له الأسباب، فالرؤيا التي لاحت في نوم يوسف ترسم مستقبله البعيد. ويستأثر يوسف بحب أبيه كله ! أحبه حبا شغله عن الأخوة العُصْبة فإذا نظروا إلى وجه أبيهم لم يبصروه هو بل وجدوا فيه صورة يوسف لشدة تعلقه به فثارت في قلوبهم الضغائن، وهم يريدون النصيب الأوفى من قلب أبيهم ووجهه.
لكن أتراه الشيطان قد ضخّم لهم الأمر، وهوَّل لهم حًب أبيهم ليوسف، وانشغال قلبه بع عنهم. لا عجب فالشيطان سيّد الجلّسة ومُدبّر الاجتماع: أُقتلوا يُوسف؟ وهكذا إذن: أُقتلوا يُوسف، يقتلون أخاهم، لكن ما ذنبه وما جريمته؟ أَحُبُ الأبِ لأحدِ أبنائهِ يدعو إخوانه الآخرين إلى قتلهِ، ذلك أول ما بدا لهم في أمره لكنّه مقرون بشيء آخر من قوله تعالى في سورة يوسف/9: ﴿ أُقتلوا يوسُف أو اطرحوه أرضاً يَخْلُ لكم وَجْهُ أبيكم. وتكونوا من بعده قوماً صالحين﴾.
فإذا لم يكن القتل فليكن النفي والنفي أخو القتل فكلاهما يخلي وجه الأب بالإخوة العُصْبَة .. ونسمع قوله العزّيز في الآية السابقة: ﴿وتكونوا من بعده قوماً صالحين ﴾.
ثم يأتي صوت مرجح لاقتراح النفي، ويعطيهم الوسيلة التي تحقق لهم ما يريدون وتحفظ على يوسف حياته الجب ممر القوافل تلتقطه منه قافلة وتمضي به بعيدا فتطوى صفحة يوسف الصديق من حياة أبيه ويخلو لإخوته وجه أبيهم !
ولا يعدم الشيطان الوسيلة فيوحي إليهم أن يستدرجوا يوسف معهم إلى رحلة برية قريبة من الجب لكن كيف يحتالون على أبيهم الذي زاد حرصه على يوسف بعد تلك الرؤيا وزاد شكه فيهم بل أنهم لم يخفوا عن والدهم ما يجدونه من ذلك بقوله تعالى في سورة يوسف /13: ﴿قال إنِّي ليحزنن أن تذهبوا أن تذهبوا به ﴾
إذن لا يطيق الأب فراق ولده ولو ليوم واحد ، لكن لابد من تنفيذ الخطة المرسومة؟ وتجادل العصبة الأب الحنون ولا يتركون له حجة خاصة الحجة في دحض الخوف من يأكله الذئب ، ويعلم النبي يعقوب عليه السلام أن الحذر لا يرد القدر، وأن أمر الله لابد أن يتم وأنها محنة لابد فيها من الصبر.
ذهب يوسف مع إخوته وتتغير عليه وجوه إخوته من اللين والرفق إلى الأيدي التي أمسكته بقوة لتشد وثاقه ، ويدلي في غيابه الجب ، ونرى تصوير ذلك من الآية الكريمة من قوله تعالى في يوسف/15 - 16 : ﴿ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابه الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشيا يبكون﴾.
وينظر يوسف الصديق إلى نفسه في غيابة الجب وتلفه المخاوف ويعصر قلبه الألم ، ويتذكر أباه الذي لا يطيق فراقه وأخوته الفاعلين، وتبدأ رعاية الله القدير ليوسف في محنته مع أخوته فها هي قافلة متجهة صوب مصر تمر بالبئر، ويتعلق يوسف عليه السلام بالحبل ليوثق به عبدا يباع بثمن بخس دراهم معدودة. هذا قدره العظيم أخذوه ليشتريه عزّيز مصر وليكون من أمره ما كان ، ويلفت النظر أن يعقوب عليه السلام استسلم لفرية أولاده ، وهو يعلم إنهم كاذبون ... ولم يدعو أحدا لأنه سلم أمره لله عزّ وجلّ : في سورة يوسف/18 : ﴿بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾ مضى يوسف إلى مصر حيث جرت به الأقدار بعد تآمر أخوته عليه وان الذئب قد أكله حين ذهبوا يستبقون ..
* المصدر: أسماء في القرآن الكريم: محمد رجب السامرائي.
طباعة
ارسال