ضمت سور القرآن الكريم أمثلة راشدة من النساء في امرأة الفرعون وأم موسى ومريم بنت عمران.ونحن أمام امرأة العزّيز وهي شخصية من نوع آخر. امرأة من الطبقة العليا في المجتمع ، وتحت يدها الحشم والخدم ، وما شاءت من متاع الدنيا.
إنّها سيدة من سيدات القصور .. يأتيها زوجها عزّيز مصر بغلام اشتراه يقول تعالى في سورة يوسف /21 :﴿ أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ﴾. وتمضي الأيام متسارعة والسنون، والغلام يكبر وينضج، وتتفتح آيات جماله أمام عيني سيدة القصر التي لم تبرح أذنها وصية زوجها من قوله الحكيم في سورة يوسف /21 ﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ .
ثم يبلغ يوسف مبلغ الرجال ، وينمو في قلب امرأة العزّيز ميل غريب نحوه ... ميل ينمو ويشتد ويستحكم. لقد طال زمن العشرة وتغلغل الحب في شغاف قلبها حتى إنها لم تعد تبصر في يوسف انه عبد في قصرها ، بل صارت تحسبه انه السيد، وسيدها ، وسيد القصر. وصارت تبدي له الميل وتلين القول، تستعطفه بالنظرة والكلمة والرعاية .. لكن أكان يوسف في غفلة عما تبدي وتخفي هذه المرأة ؟ أيشكو سيدة القصر إلى سيده ؟ وهل يسمع قول مثله في مثلها ؟ ليس أمامه سوى الصبر والاعتصام بإيمانه ؟
لما طال الأمر، وجدت المرأة فتاها لا يزيد تقربها منه إلاّ صداً وميلها إليه غلا إعراضاً .. وتذللها استعلاءً فقالت: لابد من خطة مُحكمة لا يجد منها يوسف مناصا ! يقع مرة واحدة، ثم يسهل عليه الأمر ويلين.
وأخلت امرأة العزّيز المكان الذي أرادته مسرحا للخطيئة، وغلقت الأبواب كي لا يجد يوسف مهربا وليجد الأمان، واتخذت كامل زينتها، وصرحت بما كانت به وطلبت بلسانها ما كانت تطلبه بالنظرة والكلمة والإيحاء قال تعالى في سورة يوسف/23: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك﴾.
أي موقف ليوسف هذا ؟ فتى متوقد الشباب ، وامرأة ذات منصب وجمال تقبل مصارحة بعد طول محاولة ، ويأتي رد الفعل الأول لدى يوسف على هذه الصدمة النفسية التي وجدها كاشفا عن حقيقة شخصيته بقوله الكريم في سورة يوسف /23: ﴿معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾.
ولم ينسَ يوسف ربه فأبى أن يكون خائنا لمن أراده في منزلة الولد ! وما تدعوه إليه ظلم أتراها سمعت ما قاله يوسف ، لقد حال بينها وبين ذلك ما هي فيه من غمرات النفس وأمواج الهوى ، إنها في موقف لا تراجع عنه .. موقف العرى النفسي قبل الآخر فكيف تتراجع امرأة العزّيز فكان منها إقبال لا إدبار عنه ؟
كان يوسف معتصما ، يرى ما يدعوه للإقدام ويعصمه الله تعالى ببرهان يراه أيضا فيحاول الخلاص من امرأة السوء ولكن الأبواب قد غلقت ! ويعدو وتلحقه وتمسك بقميصه ويزداد تفلتا وعدوا حتى تشق القميص إنها معركة شد فيها يوسف معرضا عن الفحشاء وجرت المرأة وراءه أشد ما كان الجري .
ثم يأتي فرج الله القريب فسيد القصر لدى الباب الذي استبقا إليه ، وينقشع عن المرأة ضباب النفس والهوى وترتدي قناع العفة والشرف وتقذف يوسف بما هيأت نفسها له وينظر يوسف فيرى الكذب في كل حرف قالته امرأة العزّيز وينطق الحق في قوة وإيجاز رباني في سورة يوسف :/26: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾.
ويرد يوسف إلى قول المرأة الماكرة الذي ارتجلته وكأنما كان مدبرا في رأسها من قبل بقوله في السورة ذاتها سورة يوسف/25 : ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم﴾ .
لقد نصر الحق تعالى نبيه يوسف الصديق وينطق شاهد من أهلها بالدليل القاطع ، ويبرأ يوسف من الجريمة ، ويأتي رد فعل العزّيز على هذا الموقف الذي تغلي فيه دماء الرجال رزينا يستفز الأعصاب ، يقول تعالى في سورة يوسف/29: ﴿يوسف اعرض عن هذا واستغفر لذنبك ﴾.
وينفض الجمع المحتشد، ويمضي نبي الله يوسف في حياته وصورة الموقف لا تبرح خياله أيمكن أن يحدث هذا ؟ ويحمد الله الذي نجاه وعصمه .. ويسأله أن يكون ذلك الموقف خاتمة المحاولات الآثمة .
وقد سمعت نسوة المدينة بخبر امرأة العزّيز وعجبن أن تراود فتاها وهي من هي ؟ ودبر لها الشيطان مكيدة لتضع أمام أعينهن غدرها لتقطع ألسنتهن . ويسجلّ القرآن الكريم أروع تصوير في سورة يوسف لتلك الصدمة التي أحدثها ظهور يوسف عليهن بقوله سبحانه:﴿ فذلكن الذي لمتنني فيه ، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين* وقالت أخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً، إنْ هذا إلا ملك كريم﴾.
ودعا يوسف أن يسجن دفعا لكيد النسوة، ولكنّه أحسّ في أعماق نفسه بالظلم فالبريء في ظلمات السجن والمُجرم الحقيقي يمرح في القصر ولكن لله الحق في كلِ أمرٍ حكمة ثم يدخل يوسف في محنة جديدة...
* المصدر: أسماء في القرآن الكريم: محمد رجب السامرائي.
طباعة
ارسال