كان ذو القرنين غازياً فاتحا محارباً، لا يصادف في طريقه مرتفعاً إلا سلكه، ولا عالياً إلا ظهره، ولا عدواً إلا كسر سلاحه وقص جناحه. ولا يبالي ذو القرنين في الجهاد، الحرّ ولا القرّ ولا السهل ولا الوعر، إذ كان الله عزّ وجلّ قد مكن له في أرضه، ورزقه الطاعة والانقياد في جنده. ثم آتاه الخالق القدير من كل شيء يحتاج غليه في توطيد ملكه سبباً، ومنحه في القتال حظاً سعيداً. قال تعالى في سورة الكهف/83-85 :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً * إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً * فأتبع سبباً﴾.
وبقيّ ذو القرنين يسير ويسري حتى انتهى إلى عين اختلط ماؤها وطينها، فتراءى له أن الشمس تغرب فيها، وتختفي وراءها، وظن أنه ليس وراء هذه العين مكان للغزو ولا سبيل للجهاد. لكنه رأى عندها قوماً هاله كفرهم، وكبر عليه ظلمهم وطغيانهم، إذ عتوا في الأرض عتواً وأكثروا فيها الفساد، وسفكوا عليها الدماء استجابة للشيطان، وجرياً وراء نوازع النفس.
ثم استخارذوالقرنين الله تعالى في أمر هؤلاء، فخيره عزّ شأنه بين سبيلين، يختار إحداهما ويسلك ما يريد منهما: إما أن يذيقهم القتل ويوقع بهم النكال جزاء كفرهم وطغيانهم، أو يمهلهم ويدعوهم لعل فيهم من يهتدي أو يرعوي، فأختار الإمهال على القتال، والحسنى على تثخين جراحهم، يقول الله عزّ وجل في سورة الكهف/ 87-89: ﴿ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً * وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً ثم أتبع سبباً﴾.
ولقد أقام ذو القرنين فيهم زمناً ضرب على يد الظالم، ونصر المظلوم، وأخذ بيد الضعيف، وفشا فيهم العدل والصلاح. بعدها شاء ذو القرنين أن يثني عنان عزّمه صوب الشرق، فسار غازياً حتى انتهى في سيره إلى غاية العمران في الأرض، ووجد قوماً تطل الشمس عليهم وليس لهم بيوت تسترهم أو أشجار تظلهم. كان هؤلاء القوم جهلاء أصحاب فوضى، فبسط على بلادهم سلطتهن وخلفهم إلى الشمال غازياً حتى وصل إلى بلاد بين جبلين، يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج، وهم قوم مفسدون ضالون ومضلون ..
وحينما رأوا ذا القرنين ملكاً قوياً وله أعوان، حتى هبوا ليقيموا سداً بينهم وبين قوم يأجوج ومأجوج. وإنّ قوم يأجوج ومأجوج قوم ركب الشر في نفوسهم جبلة، وامتزج الفساد بين جوانبهم خلقة ..حتى السيف لا يمكنه أن يردع هؤلاء القوم، والنصح محال أن ينفعهم، وشرطوا على أنفسهم نولاً يدفعونه إليه، وأموالاً يضعونها بين يديه .. وقال تعالى في سورة الكهف/94: ﴿قالوا يا ذا القرنين إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً﴾.
لكنّ ذا القرنين بما طبعه الخالق تعالى على الخير، وما فطره على الصلاح، وما أعطاه عزّ وجلّ من كنوز الأرض أجابهم على سؤالهم، وردّ عطاءهم، وطلب ذو القرنين أن يعينوه على ما يفعل، ويساعدوه على ما يصنع، فحشدوا له الحديد والنحاس والخشب والفحم، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وأحاطها بالفحم والخشب ..بعدها أوقد النار، وأفرغ عليه ذائب النحاس، واستوى كل ذلك بين الجبلين سداً منيعاً قائماً، يقول تعالى في سورة الكهف/ 96-97:﴾ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً * فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً﴾.
ولم تستطع يأجوج ومأجوج أن تظهره لملاسته، أو تنقبه لمتانته، وأراح تعالى منهم قوماً كانوا يشكو من أذاهم، ويألم من عدوانهم. أما ذو القرنين فإنّه لما شاهد السد منيعاً متيناً وهتف من قرارة نفسه بقوله العزّيز في سورة الكهف/ 98-100: ﴿قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً﴾.
* المصدر: أسماء في القرآن الكريم: محمد رجب السامرائي.
طباعة
ارسال