أحدها: ذكر الحاكم في «المَدْخل» أنَّ الصَّحيح عشرة أقسام, وسيأتي نقلها عنه وذكر منها في القسم الأوَّل الَّذي هو الدَّرجة الأُولى, واختيار الشَّيخين أن يرويه الصَّحابي المشهور بالرِّواية, وله راويان ثقتان إلى آخر كلامه الآتي عنهُ, ثمَّ قال: والأحاديث المَرْوية بهذه الشَّريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث. انتهى.
وحينئذ يعرف من هذا الجواب عن قول ابن الأخرم, فكأنَّه أراد: لم يفتهما من أصح الصَّحيح الَّذي هو الدَّرجة الأولى, وبهذا الشَّرط إلاَّ القليل, والأمر كذلك.
الثَّاني: لم يُدخل المُصنِّف «سنن» ابن ماجة في الأصول, وقد اشتهر في عصر المُصنَّف وبعده جعل الأصول ستة, بإدخاله فيها.
قيل: وأوَّل من ضمَّه إليها ابن طاهر المقدسي, فتابعهُ أصحاب الأطراف والرِّجال والنَّاس.
وقال المِزِّي: كل ما انفردَ به عن الخمسة فهو ضعيف.
قال الحُسيني: يعني من الأحاديث.
وتعقبه شيخ الإسلام: بأنَّه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة, قال: فالأولى حمله على الرِّجال.
الثَّالث: «سنن» النَّسائي الَّذي هو أحد الكتب الستة أو الخمسة, هي الصُّغرى دون الكُبرى.
صرَّح بذلكَ التاج ابن السُّكبي قال: وهي الَّتي يُخرجون عليها الأطراف والرِّجال, وإن كان شيخه المِزِّي ضمَّ إليها الكُبرى.
وصرَّح ابن المُلقن بأنَّها الكبرى وفيه نظر.
ورأيتُ بخطِّ الحافظ أبي الفضل العِرَاقي: أنَّ النَّسائي لمَّا صنَّف الكُبرى أهداها لأمير الرَّملة, فقال له: كلُّ ما فيها صحيح؟ فقال: لا. فقال: ميَّز لي الصَّحيح من غيره, فصنَّف له الصُّغْرى(136/1).
وجُمْلة ما في البُخَاري سَبْعةُ آلاف ومئتانِ وخَمْسةٌ وسَبْعُون حديثًا بالمُكرَّرة, وبحذفِ المُكرَّرة أربعةُ آلاف.
[وجُمْلة ما في] صحيح [البُخَاري] قال المُصنِّف في شَرْحه: من الأحاديث المُسْندة [سبعة آلاف] حديث [ومئتان وخمسة وسَبْعُون حديثًا بالمكَرَّرة, وبحذف المُكَّررة أربعة آلاف].
قال العِرَاقي: هذا مُسَلَّمٌ في رِوَاية الفَرْبَري وأمَّا رِوَاية حمَّاد بن شاكر فهي دُون رِوَاية الفربري بمئتي حديث, ورِوَاية إبراهيم بن مَعْقل دونهما بثلاث مئة.
قال شيخ الإسلام: وهذا قالُوه تقليدًا للحموي, فإنَّه كتب البُخاري عنهُ, وعدَّ كل باب منه, ثمَّ جمعَ الجُملة, وقلَّدهُ كل من جاء بعده, نظرًا إلى أنَّه راوي الكتاب, وله به العناية التَّامة.
قال: ولقد عددتُها وحرَّرتها, فبلغت بالمكررة, سوى المُعلَّقات والمُتابعات سَبْعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعين حديثًا, وبدون المُكَرَّرة ألفين وخمس مئة وثلاثة عشر حديثًا, وفيه من التعاليق ألف وثلاث مئة وأحد وأربعون, وأكثُرها مُخرَّج في أصُول مُتونه, والَّذي لم يُخرِّجه مئة وسُتون, وفيه من المُتابعات والتَّنبيه على اختلاف الرِّوايات ثلاث مئة وأربعة وثَمَانون.
هكذا وقع في «شرح البُخَاري» ونُقل عه ما يُخالف هذا يَسيرًا. قال: وهذا خارجٌ عن الموقُوفات والمَقَاطيع.
فائدتان:
الأولى: سَاقَ المُصنِّف هذا الكلام مساق فائدة زائدة.
قال شيخ الإسلام: وليسَ ذلك مُراد ابن الصَّلاح, بل هو تتمة قَدْحه في كلام ابن الأخْرمِ, أي: أنَّ البُخَاري قال: أحفظ مئة ألف حديث صحيح, وليس في كتابه إلاَّ هذا القدر, وهو بالنِّسبة إلى المئة ألف يسير.
الثانية: وافقَ مسلم البُخَاري على تخريج ما فيه إلاَّ ثمان مئة وعشرين حديثا.
ومُسْلم بإسْقَاط المُكَرَّر نحو أرْبَعةِ آلاف.
[و] جُمْلة ما في «صحيح» [مُسلم بإسْقَاط المُكَرَّر نحو أرْبَعة آلاف] هذا مَزِيد على ابن الصَّلاح.
قال العِرَاقي: وهو يزيد على البُخَاري بالمكرَّر لكثرة طُرقه, قال: وقد رأيتُ عن أبي الفضل أحمد بن سَلَمة: أنَّه اثنا عشر ألف حديث.
وقال الميانجي: ثمانية آلاف. فالله أعلم.
قال ابن حَجَر: وعندي في هذا نظر.
ثمَّ إنَّ الزِّيَادة في الصَّحيح تعرف من السُّنن المُعْتمدة, كَسُنن أبي داود, والتِّرمذي, والنَّسائي, وابن خُزَيمة, والدَّارقُطْني, والحاكم, والبَيْهقي, وغيرها مَنْصوصًا على صِحَّته, ولا يكفي وجُوده فيهَا إلاَّ في كتاب من شَرْط الاقْتَصار على الصَّحيح, واعْتَنى الحاكم بِضَبط الزَّائد عليهما, وهو مُتَساهلٌ.
[ثمَّ إنَّ الزِّيادة في الصَّحيح] عليهما [تعرف من] كتب [السُّنن المُعْتمدة كسنن أبي داود, والتِّرمذي, والنَّسائي, وابن خُزيمة, والدَّارقُطْني, والحاكم, والبَيْهقي, وغيرها منصوصًا على صِحَّته] فيها [ولا يكفي وجُوده فيها إلاَّ في كتاب من شرط الاقْتْصَار على الصَّحيح] كابن خُزَيمة, وأصْحَاب المُسْتخرجات.
قال العِرَاقي: وكذا لو نَصَّ على صِحَّته أحد منهم, ونُقل عنه ذلك بإسناد صحيح, كما في سُؤالات أحمد بن حنبل, وسُؤالات ابن معين وغيرهما.
قال: وإنَّما أهمله ابن الصَّلاح بناء على اخْتياره أنَّه ليسَ لأحد أن يُصحِّح في هذه الأعصار, فلا يكفي وجود التَّصحيح بإسناد صحيح, كما لا يكفي وجود أصل الحديث بإسْنَاد صحيح.
واعتنى الحافظ أبو عبد الله [الحاكم] في «المستدرك» [بضبط الزَّائد عليهما] مِمَّا هو شرطهما, أو شرط أحدهما, أو صحيح, وإن لم يُوجد شرط أحدهما مُعبرًا عن الأوَّل بقوله: هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخين, أو على شرط البُخَاري, أو مسلم, وعن الثاني بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد, وربَّما أورد فيه ما هو في «الصَّحيحين» وربَّما أورد فيه ما لم يصح عنده, مُنبهًا على ذلك [وهو مُتساهل] في التصحيح.
قال المُصنِّف في «شرح المُهذَّب»: اتَّفق الحُفَّاظ على أنَّ تلميذه البيهقي أشد تحريًا منه, وقد لخَّص الذَّهبي «مستدركه» وتعقَّب كثيرًا منه بالضَّعف والنكارة وجمع جُزءًا فيه الأحاديث الَّتي فيه وهي موضوعة, فذكر نحو مئة حديث.
وقال أبو سَعْد المَاليني: طالعتُ «المُستدرك» الذي صنَّفه الحاكم, من أوَّله إلى آخره, فلم أر فيه حديثًا على شرطهما.
قال الذَّهبي: وهذا إسرافٌ وغُلو من المَاليني, وإلاَّ ففيه جملة وافرة على شرطهما, وجُملة كثيرة على شرط أحدهما, لعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب, وفيه نحو الرُّبع مما صحَّ سنده, وفيه بعض الشيء, أو له عِلَّة, وما بقي وهو نحو الرُّبع فهو مناكير, وواهيات لا تصح, وفي بعض ذلك موضُوعات.
قال شيخ الإسلام: وإنَّما وقعَ للحاكم التَّساهل لأنَّه سَوَّد الكِتَاب ليُنَقحه فأعْجَلتهُ المَنِية, قال: وقد وجدتُ في قريب نصف الجزء الثَّاني من تجزئة ستة من «المُسْتدرك» إلى هنا انتهى إملاء الحاكم, ثمَّ قال: وما عَدَا ذلك من الكتاب لا يُؤخذ عنه إلاَّ بطريق الإجَازة, فمن أكبر أصْحَابه وأكثر النَّاس له مُلازمة البيهقي, وهو إذا ساق عنه من غير المملى شيئًا لا يذكرهُ إلاَّ بالإجازة, قال: والتَّساهل في القدر المملى قليل جدَّا بالنسبة إلى ما بعدهُ.
فمَا صَحَّحهُ ولم نَجْد فيه لِغَيرهِ من المُعتمدين تَصْحيحًا ولا تَضْعيفًا, حكمنا بأنَّه حسنٌ, إلاَّ أن يَظْهر فيه عِلِّة تُوجب ضعفهُ, ويُقاربه في حُكمه صحيح أبي حاتم ابن حبَّان.
[فما صحَّحهُ ولم نجد فيه لغيره من المُعتمدين تَصْحيحًا ولا تضعيفا حكمنا بأنَّه حسن, إلاَّ أن يظهر فيه عِلَّة توجب ضعفه].
قال البدر بن جماعة: والصَّواب أنَّه يُتتبع ويُحكم عليه بما يليق بحاله من الحُسْن أو الصحَّة أو الضَّعف.
ووافقه العِرَاقي وقال: إنَّ حُكمهُ عليه بالحسن فقط تحكم, قال: إلاَّ أنَّ ابن الصَّلاح قال ذلك بناء على رأيه: أنَّه قد انقطع التَّصحيح في هذه الأعْصَار, فليسَ لأحد أن يُصححه, فلهذَا قطع النَّظر عن الكشف عليه.
والعَجَب من المُصنِّف كيفَ وافقهُ هنا مع مُخالفته له في المَسْألة المَبْني عليها, كمَا سيأتي, وقوله: فَمَا صَحَّحه, احتراز مِمَّا خرَّجه في الكتاب ولم يُصَرِّح بتصحيحه فلا يُعتمد عليه.
[ويُقَاربهُ] أي: صحيح الحاكم [في حُكمه «صحيح» أبي حاتم ابن حبَّان] قيل: إنَّ هذا يُفهم ترجيح كتاب الحاكم عليه, والواقع خلافُ ذلك.
قال العِرَاقيُّ: وليسَ كذلك وإنَّما المُراد أنَّه يُقَاربه في التَّساهل, فالحاكم أشد تَسَاهلاً منهُ.
قال الحازمي: ابن حبَّان أمكن في الحديث من الحاكم.
قيل: وما ذُكِرَ من تساهل ابن حبَّان ليسَ بصحيح, فإنَّ غايتهُ أنَّه يُسمِّي الحسن صحيحًا, فإن كانت نسبته إلى التَّساهُل باعتبار وجدان الحسن في كتابه, فهي مشاحة في الاصطلاح, وإن كانت باعتبار خِفَّة شروطه, فإنَّه يخرج في الصَّحيح ما كان راويه ثقة غير مُدلس سمع من شيخه, وسمع منه الآخذ عنه, ولا يكون هناك إرْسَال ولا انقطاع, وإذا لم يكن في الرَّاوي جرح ولا تعديل, وكان كل من شيخه والرَّاوي عنه ثقة, ولم يأته بحديث مُنكر فهو عنده ثقة.
وفي كتاب «الثِّقات» له كثير مِمَّن هذه حاله, ولأجل هذا ربما اعْتُرض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حاله, ولا اعتراض عليه, فإنَّه لا مشاحة في ذلك, وهذا دون شرط الحاكم, حيث شرط أن يُخَرِّج عن رواة أخرج لمثلهم الشَّيخان في الصَّحيح.
فالحاصل أنَّ ابن حبَّان وفَّى بالتزام شُروطه ولم يُوفِّ الحاكم.
* المصدر: تَدْريبُ الرَّاوِي في شَرْح تَقْريب النَّواوي: عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي.
طباعة
ارسال