رجلّ آتاه الله الحكمة ولقنه الشكر، يخاطب وله من موقع الأبوة الحانية الحريص على مصيره في دنياه وآخرته، نجده يستجمع خلاصة حكمته ليقدمها عظة له إن عرض القرآن المجيد لصورة لقمان الحكيم وهو يقف موقف الواعظ من ولده بيان للطريق الذي على الوالد أن يسلكه مع وله ، كيف يربيه. وما هي المبادئ والقيم التي يغرسها في قلبه ، وينميها في سلوكه.
وأول ما يبدأ به لقمان الحكيم نهي ولده عن الشرك بالله ، وفي هذا النهي تتجلّى حكمة لقمان قال الخالق في سورة لقمان /83 : " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ".
لكنّ الشرك أعظم الذنوب، فإذا وجد لم ينفع معه عمل صالح وإذا فقد لم تضرّ بعد معصية مع رحمة الله وغفرانه يقول تعالى في سورة النساء /48: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾.
وأمام لقمان وهو يَعِظُ ولده تأتي وصية من الله عزّ وجلّ تعترض سياق تلك الموعظة لتلقي بضوء على طبيعة العلاقة بين الولد والوالدين، لنقول لكل ولد يمر بهذه الموعظة: عليك أن لا تنسى حق والديك، فإذا كان من حق الولد على الوالد أن يحسن تربيته ويتبين له سبيل الحق، فللوالدين عليه حقو ، وإن كانا على غير ملة الهدى، فأمه حملته وهناً على وهن، وذاقت الآلام بين حمل ورضاع في عامين لا تعادلهما الأعوام التي يقضيها في محاولة البر وسداد الدين.
ثم نتابع بعد هذا الاعتراض الذي يكشف حقّ الوالدين على الوالد لنستمع إلى الحكمة التي تنثال من فم لقمان الحكيم لابنه. فقد لفت لقمان ابنه إلى صفة من صفات الله جلّ جلّاله، صفة تثير في النفس مشاعر الرقابة وتوقظها على حقيقة تغفل عنها، هي صفة علم الخالق القدير، واستخدم لقمان الحكيم في الدلالة على علم الله عزّ وجلّ أسلوبا تصويريا يناسب عقلية الولد .. فضرب لابنه مثلا بأصغر ما كان متصورا له: حَبَة الخردل المخبوءة في صخرة صماء أو مختفية في آفاق السماء التي تبدو للعين هائلة الاتساع بعيدة الآماد تكل العيون من البحث في جنباتها، أو تكون هذه الحبة مستترة في تراب الأرض في فج من فجاجها، أو سفح من جبالها، تلك الحبة الصغيرة أينما تكون يعلم الله مكانها . يقول تباركت أسماؤه في سورة لقمان /16: ﴿يا بني إنها إن تك مثقال من حبة خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير﴾.
بعد تمهيد لقمان الحكيم لابنه بخالقه وبعض صفاته مهدّ السبيل في قلبه لتلقي التي يعرف لمن يتوجه بها بالقول الحكيم في سورة لقمان /17:﴿يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر والصبر على ما أصابك إن ذلك من عزّم الأمور﴾.
بعد ذلك أمر لقمان ولده بحب الخير للناس كما يحبه لنفسه، والمسلم مجاهد في سبيل ربه، فدعا ابنه ليكون مؤمناً، ذا إيمان يقول تعالى:﴿ وأمر بالمعروف وإنْهَ عن المنكر ﴾. كما نصح لقمان الحكيم ابنه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ابتداء من المنكر الأكبر : الشرك بالله، وانتهاء بأصغر المنكرات .. وزود لقمان ابنه بأسس العقيدة السليمة ، والعبادة القويمة والحركة في سبيل نشر المعروف ومطاردة المنكر، إضافة لتزويده إلى جانب ذلك بالسلوك المستقيم البعيد عن الخصال التي يكرهها الله عزّ وجلّ ويبغضها عباده. بإشارة القرآن الكريم:﴿ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور ﴾.
إنّه ينهى ولده عن التكبر عن خلق الله ، والتكبر خلق نفسي يتجلّى في استعلاء الرأس وإمالة الخد في شموخ كاذب، وكبرياء مصطنع، ثم ينهاه عن الإحساس بالذات إحسانا يستخففه فيمشي في الأرض مرحاً، ويكاد الإنسان يحس بحقيقة هذا المرح عندما يحصل خيرا أو يحقق نجاحاً، ويريد أن يصل إلى من يسره سماعه فتراه يمرح في مشيته فيكاد يطير من شدة فرحه. يقول تعالى مصوراً ذلك في سورة لقمان: ﴿ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور ﴾.
ويستمر لقمان في نصح ولده، فدله على أخطر ما يمكن أن يتسلل إليه من أمراض إلى ظاهرة ليكون نظيف الظاهر والباطن بقول العزّيز: ﴿واقصد في مشيك﴾. إذن هذا هو صوت الإنسان رسوله إلى الناس جعله الله تعالى للبلاغ والاتصال، فإذا زاد ارتفاعه عن الحد الذي يحصل المقصود انقلب مصدر إزعاج والإزعاج ليس من شأن الإنسان بل هو من شأن الحمار كما قال الحق: ﴿إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير ﴾.
* المصدر: أسماء في القرآن الكريم: محمد رجب السامرائي.
طباعة
ارسال