نلحظ في قصص القرآن الكريم إن كان إتباع الأنبياء من عامة الناس الذين يملأون أعين السادة فنراهم يعيبون النبي المرسل إليهم إن كان أتباعه من أراذل القوم كما زعموا. واعتدنا أن نجد الملأ وكان كثير من المترفين والسادة في صف الكفر والنساء.
تلك هي القاعدة السائدة في مسيرة الإيمان التي تتبدى في القص القرآني، لكننا نجد اختلافاً عنها في شخصية امرأة فرعون وفي شخصية مؤمن آل فرعون، اللتين انحازتا من طبقة الملأ المترفين الكفرة إلى فئة المؤمنين الصادقين. وشخصية مؤمن آل فرعون تتيح لنا فرصة ثمينة للتنصت على جلّسة مغلقة من جلّسات علية القوم الكافرين، وقد جمعهم البحث عن مخرج من الأزمة التي جاء فيها موسى عليه السلام.
ويجمل عزّ وجلّ أمر موسى وفرعون، ونسمع الحوار ونرى المتحاورين في سورة غافر /23-25: ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب. فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال﴾.
وقد اقترح الملأ امتداداً للسياسة القديمة لبني إسرائيل باستئصال ذكورهم قبل ميلاد موسى عليه السلام، لكن كيد الكافرين في ضلال، لأن ليس كل ما يكيدونه يتحقق، وليس كل ما يريدونه يقع، فللهِ جنود السماوات والأرض والله من ورائهم محيط. كذلك تقدم فرعون باقتراح ثان هو قتل موسى خوفا من تبديل الدين السائد وإظهار الفساد في الأرض، وفرعون هو ولي الأمر وعليه حماية الدين وردِّ الفساد عنهم، لقول فرعون: أيكون موسى النبي مفسداً في الأرض، وفرعون المستعلي المستكبر يبغي الخير لقومه. إنّها بلا شك الموازين المنقلبة التي قد تعجز المخدوعين أو عمي القلوب لكنّها تنكشف لمن ينظر بعين البصيرة.
وبين اقتراح الملأ وفرعون ووسط الجوّ العدواني انطلق صوت غريب غير متوقع، صوت عارض القتل ودعا قومه إلى التبصر والتدبر، وقد انقشعت عن عينيه غشاوة الزيف وأُبهة الملك ، وحجاب الترف. وأي إيمان كان يملك بين جنبيه وهو يخاطر بحياته حيث وقف في وجه تيار القتل، بدعوة الملأ إلى الإيمان. إنّه موقف لا يمل المرء من تكرار النظر فيه وإنها شخصية لا ينقضي العجب من روعتها للوصول صوب الهدف من منافذ شتى، بقوله تعالى في سورة غافر /28- 29 :﴿وقال رجلّ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم. وإن كان كاذباً فعليه كذبُهُ وإن يكُ صادقاً يُصِبكم بعضُ الذي يَعِدُكم. إنّ الله لا يهدي مَنْ هو مسرفٌ كذابٌ. يا قوم لكم المُلك اليومَ ظاهرينَ في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا . قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكُم إلاّ سبيلَ الرَّشادِ﴾.
إنّ التعقيب الفرعوني لا يقطع التدفق الإيماني الذي انطلق به لسان المؤمن وقد انكشف إيمانه بعد طول كتمان، فالمؤمن من آل فرعون في سياق الآيات يحمل روحه على كفه، وقد كان وقت الدعوة إلى الحق بعد أن تميز الحق من الباطل وانكشف الزيف وماله لا يفعل ذلك وقد رأى المؤمن السحرة يخرون ساجدين قائلين: ﴿ آمنا برب هارون وموسى﴾.
ولكن لن يضير السحرة تهديد الفرعون ووعيده لهم ويردون عليه باستعلاء وتحد قوله الحكيم : ﴿فاقض ما أنت قاضٍ إنما هذه الحياة الدنيا ﴾. ويحول المؤمن صيغة الخطاب من تفنيد دعوى وتذكير ببأس الله تعالى الذي سيأتي إلى لفت نظر لحقائق التاريخ في صوت فيه حب الهداية وحسن توسل الداعية إلى القلوب القاسية لعلها تلين ، ويدني هذا المؤمن الحقائق من بصائرهم علهم يهتدون ويذكرهم بما بعد الموت إن كانوا يؤمنون في قول الحق في سورة غافر/30_35: ﴿وقال الذي آمن يا قوم غني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد . ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا. كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار﴾.
لقد سمع فرعون وقومه الحق من المؤمن لكنهم لا يستطيعون للمنطق الذي جاءهم به دفعا لهذا وجمعوا وعقب فرعون على البيان الذي ألقاه مؤمن آل فرعون فوجه خطابه إلى هامان بنص آيات من سورة غافر /36 - 37 ": ﴿وقال فرعون يا هامان ابنِ لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وغني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب﴾.
ولم يثنِ الرجلّ المؤمن ما سمع من فرعون من قول هزل فمضى يبلغ دعوته ، ويقول كلمته وليكن ما يكون ، فليس ثمة مجال للتراخي أو التخفي .. وقد وجه الملأ للمؤمن ضغطا ليرده عن إيمانه فيقول على لسان المصور في القرآن : ﴿ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ﴾.
وهكذا يبقى صوت مؤمن آل فرعون يتردد في الأسماع لأنّه صوت الإيمان الرائع ونموذج هي للمؤمن الذي انبثق الإيمان في قلبه وكل ما حوله يدعو إلى الكفر والضلال. لكنّ نور الإيمان قد عمّ كل مكان في حقيقة الدنيا وزخرفها ومتاعها وما فيها من جاهٍ وسُلطان ومالٍ وكل ذلك متاع وحقيقة الآخرة هي دار القرار.
* المصدر: أسماء في القرآن الكريم: محمد رجب السامرائي.
طباعة
ارسال