عن أبي نجيح العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قلنا ((يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا)) قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال ((حديث حسن)) وأبو نعيم وقال ((حديث جيد من صحيح حديث الشاميين)) وفي بعض الطرق ((فماذا تعهد إلينا)) قال ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها فلا يزيغ عنها إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)) وفي بعضها ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار))
قال الحافظ المنذري ((وقوله عضوا عليها بالنواجذ أي اجتهدوا على السنة وألزموها واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته والنواجذ الأنياب أو الأضراس)).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه أن رسول الله قال ((العلم ثلاثة آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل)) رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن جابر رضي الله عنه قال ((كان رسول الله يقول في خطبته ((أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وإن أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة نحو ما تقدم)) رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.
وفي رواية ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد الحديث)).
قال الإمام النووي قدس الله سره ((إن من أهم العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات أعنى معرفة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها وبقية أنواعها المعروفات ودليل ذلك أن شرعنا مبنى على الكتاب العزيز والسنن المرويات وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها في السنن المحكمات وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتى أن يكون عالماً بالأحاديث الحكميات فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على بيان حال أفضل المخلوقات عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والبركات ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقص ذلك وضعفت الهمم فلم يبق إلا آثار من آثارهم قليلات والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات وقد جاء في فضل إحياء السنن المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه لما ذكرنا من الدلالات ولكونه أيضاً من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله وللأئمة والمسلمين والمسلمات وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات ولقد أحسن القائل ((من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات وهو جدير بذلك فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطى جوامع الكلمات صلى الله عليه وآله وسلم صلوات متضاعفات)).
وقال العلامة الشهاب أحمد المنيني الدمشقي الحنفي في القول السديد ((إن علم الحديث علم رفيع القدر عظيم الفخر شريف الذكر لا يعتني به إلا كل حبر ولا يحرمه إلا كل غمر ولا تفني محاسنه على ممر الدهر لم يزل في القديم والحديث يسمو عزة وجلالة وكم عز به من كشف الله له عن مخبآت أسراره وجلاله إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين ومنه يدري شمائل من سما ذاتاً ووصفاً واسماً ويوقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عرباً وعجماً وتمتد من بركاته للمعتني به موائد الإكرام من رب البرية فيدرك في الزمن القليل من المولى الجليل المقامات العلية والرتب السنية من كرع من حياضه أو رتع في رياضه فليهنه الأنس يجني جنانه السنة المحمدية والتمتع بمقصورات خيام الحقيقة الأحمدية وناهيك بعلم من المصطفى بدايته وإليه مستنده وغايته وحسب الراوي للحديث شرفاً وفضلاً وجلالة ونبلاً أن يكون أول سلسلة آخرها الرسول وإلى حضرته الشريفة بها الإنتهاء والوصول وطالما كان السلف الصالح يقاسون في تحمله شدائد الأسفار ليأخذوه عن أهله بالمشافهة ولا يقنعون بالنقل من الأسفار فربما ارتكبوا غارب الاغتراب بالارتحال إلى البلدان الشاسعة لأخذ حديث عن إمام انحصرت رواتيه فيه أو لبيان وضع حديث تتبعوا سنده حتى انتهى إلى من يختلق الكذب ويفتريه وتأسي بهم من بعدهم من نقلة الأحاديث النبوية وحفظة السنة المصطفوية فضبطوا الأسانيد وقيدوا منها كل شريد وسبروا الرواة بين تجريح وتعديل وسلكوا في تحرير المتن أقوم سبيل ولا غرض لهم إلا الوقوف على الصحيح من أقوال المصطفى وأفعاله ونفي الشبهة بتحقيق السند واتصاله فهذه هي المنقبة التي تتسابق إليها الهمم العوالي والمأثرة التي يصرف في تحصيلها الأيام والليالي))
وقال الإمام أبو الطيب السيد صديق خان الحسيني الأثري عليه الرحمة والرضوان قي كتابة ((الخطة)) ((أعلم أن آنف العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها وعمدة المناهج اليقينية ورأسها ومبني شرائع الإسلام وأساسها ومستند الروايات الفقهية كلها ومآخذ الفنون الدينية دقها وجلها وأسوة جملة الأحكام وأسَّها، وقاعدة جميع العقائد وأسطقسها وسماء العبادات وقطب مدراها ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر وهو ملاك كل نهى وأمر ولولاه لقال من شاء ما شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء فطوبي لمن جد فيه وحصل منه على تنويه يملك من العلوم النواصي ويقرب من أطرافها البعيد القاصي ومن لم يرضع من دره ولم يخص في بحره ولم يقتطف من زهره ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم كيف وهو كلام رسول الله والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين وقد أوتى جوامع الكلم وسواطع الحكم من عند رب العالمين فكلامه أشرف الكلم وأفضلها وأجمع الحكم وأكملها كما قيل ((كلام الملوك ملوك الكلام)) وهو تلو كلام الله العلام وثاني أدلة الأحكام فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها تتوقف على بيانه فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم لا يعتمد عليها ولا يصار إليها فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها وكالنقاد لنقود كل الفنون أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومآخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار وما كان زيفا غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان فهي مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير من أنقاد لها فقد رشد واهتدى وأوتى الخير الكثير ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير فإنه نهى وأمر وأنذر وبشر وضرب الأمثال وذكر وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر وقد أرتبط بها اتباعه الذي هو ملاك سعادة الدارين والحياة الأبدية بلا مين كيف وما الحق إلا فيما قاله أو عمل به أو قرره أو أشار إليه أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب والعمل العمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء ((وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) فياله من علم سيط بدمه الحق والهدى ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى وقد كان الإمام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام يقول ((إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث)) ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة وهذا علم تعطى مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان وإليه أشار القائل بقوله: (أهل الحديث هموا أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا).
ويروي عن بعض الصلحاء أنه قال: ((أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ ((قال رسول الله )) فالحاصل أن أهل الحديث كثر الله تعالى سوادهم ورفع عمادهم لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلاً عن الناس أجمعين لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم ولم يبرح تمثال جماله الكريم وخيال وجهه الوسيم ونور حديثه المستبين يتردد في حاق وسط جنانهم فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة ونسبة ظاهرهم بظاهرة النقي مسلسلة فأكرم بهم من كرام يشاهدون عظمة المسمي حين يذكر الاسم ويصلون عليه كل لمحة ولحظة بأحسن الحد والرسم)).
* المصدر: كتاب قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: للعلامة جمال الدين القاسمي الدمشقي.
طباعة
ارسال