قيمة الصدق:
- الصدق هو أول الأخلاق الحسنة التي يجب أن يتصف به المؤمن الحقيقي.
- وهو أعظم درجات الأخلاق وأساسها وثمراتها.
وهو رأس الفضائل وأُسُّ المروءة، من تحلَّى به كَمُلَتْ صفاته وسَمَتْ أخلاقه، وتحققت معه آماله.
- والصدق أساس الدين، وحياة الأمم والشعوب، وسبب الرُقيِّ والمحبة والتعاون، لذا نجد الشعوب الراقية جُبِلَتُ على الصدقِ فلا تجد فيها كذاباً...
- فليس في الأخلاق خُلق أحسن بالإصلاح والنظام من الصدق.
معنى الصدق:
- الصدق في الاستعمال الشائع: هو الإخبار بالحق الذي يعلمه الإنسان ولا يعلم غيره.
- ومادة الصدق في لغة العرب، تدل على قوة في الشيء، سواء أكان الشيء قولاً أم غيره...
وسمِّي الصدق القولي صدقاً، لقوته في نفسه ولأن الكذب لا قوَّة له.
- والأصل في هذا قول العرب: رمحٌ صَدْقٌ أي صَلْبٌ.
تعريف الصدق:
- عرفوا الصدق بأنه مطابقةُ القول: الضمير والشيء المخبر عنه معاً.
- ودون ذلك لا يكون القول صدقاً تاماً.
- فلو قال المنافق: محمد رسول الله، كان ذلك صدقاً في الحقيقة لمطابقته الواقع، ولكنه في الوقت نفسه كذب بالنسبة إلى هذا المنافق، لأنه يخالف ما في ضميره.
- ولذلك قال القرآن الكريم يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذَا جَاءكَ الْـمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْـمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [سورة المنافقون:1]
- فالصدق هو القول بما يطابق الحقيقة، والواقع من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان، ولولاه لانتزعت ثقة الناس بعضهم من بعض، ولما وصل إليهم شيء من الحقائق في العلوم والأديان.
معاني الصدق:
يستعمل الصدق في عدة معانٍ منها:
أولاً: صدق القول (اللسان) وهو أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو فيما يتضمَّن الإخبار وينبه عليه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب:70].
- وحديثنا عن الصدق في هذا الكتاب، في هذا المعنى الخاص فقط.
ثانياً: صدق الإيمان والاعتقاد، والثبات عليه، والاستقامة فيه، وعدم التردد مع الصمود أمام المغريات والشهوات.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15].
ثالثاً: صدق النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسَّكنات إلا الله تعالى، وسنْفرِد له بحثاً خاصاً.
رابعاً: الصدق في العزم، والوفاء به.
قال تعالى: ﴿مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا23/33لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْـمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب:23-24].
خامساً: الصدق في مقامات الدين، وهو أعلى الدرجات كالصدق في الخوف والرجاء والزهد والرضى، والحب والتوكل.
سادساً: الصدق في المعاملات مع الناس ، من بيع وشراء، وحاجات مختلفة، فلا غش ولا خداع، ولا احتكار ولا رشوة، ولا مماطلة ولا وعود كاذبة.
مكانة الصدق في الإسلام:
- للصدق مكانة عظيمة في الإسلام، ظهر من خلال ما يلي:
أولاً: الصدق صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر القرآن الكريم اتصاف الله تبارك وتعالى بصفة الصدق.
قال تعالى: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:87].
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ [النساء:122].
ثانياً: والصدق من أبرز صفات الرسل والأنبياء، وهم مجبرون عليه إذ لو بدر من أحدهم غير الصدق أُهْلِكَ فوراً، وقد بَيَّن الله ذلك في حق سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي عامة لكل الرسل.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ44/69لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ45/69ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة:44-45-46].
- وقد وصف القرآن الكريم الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام بالصدق.
قال تعالى: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْـمُرْسَلُونَ﴾ [يس:52].
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾ [مريم:56].
ثالثاً: ولقد كان خلق الصدق من أبرز أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك نعته قومه قبل بعثته بنعت [الصادق الأمين].
- ولقد قالت له السيدة خديجة رضي الله عنها، عند بدء الرسالة: [إنك لتصدق الحديث].
وقال له قومه: [ما جرَّبنا عليك كذِباً].
وقد قال الله تعالى: ﴿وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب:22].
- هذا وقد وصف القرآن النبيَّ ورسالته بالصدق.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ﴾ [الزمر:33].
رابعاً: والقرآن يبيُّن أهمية الصدق، وأنه تالي لدرجة النبوَّة.
- فقد قال تعالى عن أُناس: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
خامساً: وما دام الصدق صفةً لازمة للرسول صلى الله عليه وسلم. وكان فضيلة تحلّى بها منذ صباه، وضرب فيْها القدوة المثلى لكل البشرية، فمن الطبيعي أن يدعوه إليه، ويحث عليه، ولذلك جاءت في السنة النبوية المطهرة، تلك الكلمات الجوامع التي تُظْهر أهمية الصدق، والأمر به والحث على التخلُّق به، والأحاديث الشريفة كثيرة في هذا الموضوع منها:
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الصِّدق يهدي إلى البرِّ، وإنِّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وإن الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يُكْتَبَ عندَ اللهِ صِدِّيقاً، وإنَّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجُورِ، وإن الفجور يهدي إلى النَّار، وإنَّ الرجُلَ ليكذبُ حتى يُكْتبَ عند الله كَذَّاباً» (متفق عليه)
2- عن أبي محمد الحسن بن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ ما يَرِيْبُكَ إلى ما لا يَرِيِيُكَ، فإنَّ الصِّدْقَ طُمَأنينةٌ والكَذِب رِيْيَةٌ» (رواه الترمذي)
- قوله [يريبُكَ] بفتح الياء وضمها، ومعناه:
- اترك ما تشك في حلِّهِ واعدل إلى ما لا شَك فيه.
3- عن أبي سفيان صخر بن حَرْبٍ رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة هَرِقل، قال هرقل:
فماذا يأمُرُكم؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سفيان: قلت: يقول: [اعبدوا اللهَ وحْدَهُ لا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤُكُمْ، ويأمُرُنا بالصلاةِ والصدقِ والعفافِ والصِّلَةِ] (متفق عليه)
سادساً: ولقد اتصف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بالصدق من أول إسلامهم وعَرَفوا أهمية الصدق والتمسُّكِ به، وأنه من أهم أخلاق المسلم، حتى قال قائلهم: [ما كَذْبتُ منذ أسلمتُ].
- قال سيدنا عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لأَنْ يضعني الصدقُ وقَلَّمَا يَفْعَل، أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ يَرْفَعني الكَذِبُ وقَلَّما يفعل].
- وقال سيدنا عليٌّ كرَّمَ الله وجهه ورضي الله عنه: [قد يَبْلُغُ الصادق بصدقِهِ ما لا يَبْلُغهُ الكاذبُ في احتياله].
- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه فقد ربح: الصدقُ، والحياءُ، وحُسْن الخُلُقِ، والشُّكر].
سابعاً: ومن بعد الصحابة الكرام جاء التابعون، ثم تابعوهم العلماء والصالحون، فتمسَّكوا جميعاً بهذا الخُلُق الكريم في جميع أقوالهم وأعمالهم وأَمَرُوْا من وراءهم من المؤمنين والمريدين بالتخلُّق بالصدق، والتمسُّك به في كل أحوالهم.
- قال أحدهم: [الصدق مُنجْيك وإن خِفْتَهُ، والكذب مرديك (موقعك) وإن أمنته].
- وقال آخر: [مَنْ صدق في مقاله، زاد في جماله].
- وقال ثالث: ثلاثة لا تخطئ الصادق: [الحلاوة، والهيبة، والملاحة].
- وقد قال الإمام ابن القيم في الصدق: [هو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضِعَ عَلى شيء إلا قطعه، ولا واجَهَ باطلاً إلا أرْداه وصرعه، مَنْ صالَ به لم تُردَّ صولَتُه، ومن نَطَقَ به عَلَتْ على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، وَمِحَكُّ الأحوال، والحامِلُ على اقتحام الأهوال، والبابُ الذي دَخَلَ منه الواصلون إلى حَضْرة ذي الجلال، وهو أساسُ بناء الدين، وَعَمُودُ فسطاط اليقين، وَدَرَجَتهُ تاليةٌ لدرجة (النبوة) التي هي أرفع درجات العالمين. ومن مَسَاكِنُهُم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مددٌ متصلٌ ومعين].
ثامناً: هذا ويقرر القرآن المجيد بعد هذا أن الصدق هو صفة الأخبار من عباد الله الصالحين المصلحين، الطائعين المستقيمين.
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177].
- ويقول مادحاً المؤمنين: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْـمُنفِقِينَ وَالْـمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ [آل عمران:17].
- لذلك نجد أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم والعلماء والتابعين والصالحين تمسَّكوا بهذا الخُلُق واتصفوا به.
تاسعاً: هذا وإن الله عز وجل يدعو أهل الإيمان وأهل الصلاح والتقوى وأهل المحبة والذكر في كل مكان وزمان يدعوهم أن يكونوا مع الصادقين في الدنيا وأن يسعوا في العمل في طاعة الله ورسوله ليكونوا معهم في الآخرة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
وقال أيضاً: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
عاشراً: حتى أن الشعراء أخذوا يولون الصدق في أشعارهم مكانة عظيمة لما كان له من الأهمية في الأخلاق والمعاملة مع الناس.
قال أحدهم:
عَوِّد لسانَكَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ * إِنَّ اللِّسانَ لِمَا عَوَّدتَ مُعْتَادُ
مُوَكَّلٌ يتقَاضَى ما سنَنْتَ لَهُ * في الخير والشَّرِّ فَانْظُرْ كيفَ تَرْتَادُ
(موكل: نائب عنك- ترتاد: تطلب).
وقال آخر:
عليك بالصِّدقِ ولو أَنَّهُ * أَحْرَقَكَ الصِّدْقُ بنار الوعيْد
وابغِ رضا المولى فَأغْبَى الورى * من أَسْخَطَ المولى وأرضى العَبيدْ
وقال ثالث:
عليكَ بالصِّدق في كُلِّ الأمور ولا * تَكْذِبْ فَأَقْبَحُ ما يُزري بك الكذبُ
(يزري: يعاب).
وقال رابعٌ:
ما أَحْسَنَ الصِّدقَ في الدنيا لقائِلِهِ * وأَقْبَحَ الكذبَ عند اللهِ والناسِ
وقال خامس:
الصِّدقُ في أقوالِنَا أَقْوى لنا * والكَذِبُ في أفعالِنا أفْعَى لنا
النجاة في الصدق:
- لا تحصل النجاة في الدنيا والآخرة إلا في الصدق.
أما في الدنيا:
فالصدق أنجى من الكذب في كل الأمور، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَحرَّروا الصِّدقَ وإن رأَيْتُم أنَّ الهَلَكَةَ فيه، فإن فيه النجاة» (رواه ابن أبي الدنيا).
- فقد ذكر أن الحاج طلب رجلاً ليقتله فلم يعثر عليه، فلما أعياه طلبه، قال أحدهم للحجاج:
إن أردت الرجل فاسأل أباه عنه فهو لا يكذب أبداً فاستدعى الوالد فسأله:
أين ابنك؟ فدَلَّهُ عليه فَأُتي به، فاستغرب الحجاج وقال للوالد: ما حملك على هذا؟ وأنا أريد قتله؟
فقال: لقد كرهت أن ألقى الله بكذبة.
فعفا الحجاج عن الولد. (وذلك ببركة الصدق).
- فلا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه.
قال تعالى: ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة:119].
أثر الصدق
[مسرحية تاريخية واقعية]:
حدثت وقائعها مع الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وهو فتىً حديث السنِّ في أثناء سفره.
- يفتح الستار عن زعيمٍ العصابة سرقة.
يدخل أحد أفراد العصابة دافعاً أمامه شاباً، ويقترب من زعيمه قائلاً:
اللِّص: سيدي، ونحن نفتش القافلة عثرنا على هذا الشاب الذي أخذ يسخر منا.
الزعيم: (غاضباً)، وهل يجرأ أحد على أن يسخر منا...؟؟ ماذا فعل...؟
اللِّص: سألته ما معك؟ فقال: أربعون ديناراً.
الزعيم: كيف تهزأ برجالي؟ أما تدري أننا أسياد هذه البادية؟ نقتل من نشاء ونسلب مال من نشاء؟. كيف تسخر من رجالي، أيها الطائش، صغير السن؟ وكيف تكذب على رجالي وتستهزئ بهم.
عبد القادر: (ينظر إليهما).
أنا لم أكذب على أحد، ولم أستهزى بأحد.
الزعيم: وكيف ذلك؟ ألم تقل أنك تملك أربعين ديناراً.
عبد القادر: نعم لقد قلت ذلك.
الزعيم: إذن هاتها، أين هي؟
عبد القادر: ها هي [يُخْرِج من جيبه كيس نقود ويقدمه للزعيم].
الزعيم: [يأخذ الكيس ويفتحه، ويضع ما به من نقود بيده، ويظهر عليه الاستغراب الشديد].
يا للعجب..... نقود والله..... إذن أنت لا تسخر من القوم.
عبد القادر: أبداً... أنا لا أسخر من أحد.
الزعيم: وأنت صادق إذن.
عبد القادر: جعلني الله من الصادقين وجمعني مع الصادقين في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
الزعيم: ما حملك يا فتى على الصدق... قد كان بإمكانك إخفاء المال والاحتفاظ به.
عبد القادر: نشأت على الصدق من نعومة أظفاري، وعندما أردت الخروج من مكة إلى بغداد لطلب العلم أعطتني أمي أربعين ديناراً أستعين بها وعاهدتني على الصدق وقالت لي:
يا بني أُصدقْ ولا تكذب أبداً، فالله يحفظك وينجِّيك بالصدق دائماً وأبداً. فأنا أخاف أن أخون عهدي مع أمي... وأخاف أن أُغضب ربي.
الزعيم: (يَذهل... ثم يصيح ويمزِّق ثيابه).
أنت تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله.....
أنت تخاف أن تُغْضب رَبَّك... وأنا أسرق وأقتل وأنهب كيف أقف أمام ربي...
(يُرْجِعُ إليه المال) ويقول وهو يبكي وقد أقبل على الفتى متوسلاً.
- أنا تائب إلى الله على يديك.
- ما اسمك يا فتى؟
عبد القادر: عبد القادر الجيلاني.
اللِّص: وأنا تائب معك أيها الزعيم، فأنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة.
عبد القادر: (يبكي ويصيح).
الله أكبر... الله أكبر... ما أسرع ثمرات الصدق.
الزعيم: وهل يقبلني الله عز وجل بعدما فعلت كل ما فعلت؟.
عبد القادر: نعم وكيف لا يقبلك وهو القائل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى:25].
وهو القائل: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:104].
الزعيم: يا فتى من أين لك هذا العلم وهذه التربية؟
عبد القادر: رباني والديَّ على ذلك إذ كنت صغيراً، ثم دفعا بي إلى مجالس العلماء والصالحين فأخذت عنهم هذا العلم وهذه الأخلاق الحسنة.
الزعيم: بارك الله في والديك اللذان اهتمَّا بجسدك ونفسك وتربيتك وأرشداك إلى من يعلمك وما ينقصك في دينك ودنياك وبارك الله في أولئك العلماء والصالحين الذين انتفعت بهم.
(يلتفت إلى اللص قائلاً: بَلِّغ جميع أفراد العصابة بما حدث، وأمرهم أن يَرُدُّ كل ما أخذوه إلى أصحابه...
وقل لهم أن الزعيم تاب إلى الله وسيذهب مع هذا الفتى لطلب العلم، فمن كنت زعيمه فليأتِ معنا عسى أن يقبلنا الله ويعفو عنا ببركة صدق هذا الفتى.
[يسدل الستار]
التزام الصدق:
- مما مرَّ معنا سابقاً نجد أنه لا بدَّ للمؤمن من أن يلتزم الصدق في جميع أموره. والتزامُ الصِّدق أمرٌ يحتاج إلى إرادة صلبة، وعزيمة قوية وإيمان وطيد، واحتمالٍ كبير لتَبِعَات الصدق.
- لذلك قال بشر بن الحارث: [مَنْ عامل الله بالصدق، استوحش من الناس].
وسئل ذو النون: هل للعبد إلى صلاح أموره سبيل؟ فأجاب قائلاً:
قد بقينا من الذنوب حيارى * نطلب الصدق، ما إليه سبيلُ
فدعاوى الهوى تَخفُّ علينا * وخلاف الهوى علينا يثقلُ
- وكأن ذا النون يشير بذلك: إلى الجهد الكبير الذي يجب أن يبذله من ذات نفسه من شاء أن يكون متحلياً بفضيلة الصدق، وإلى أن أقوم طريق يوصل إلى الصدق هو أن يخالف الإنسان هوى نفسه، وأن يوافق الحق والعدل...
ومن هنا قال ابن القيم: [حملُ الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم].
وقال الجنيد: [حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيِّك منه إلا الكذب].
- والمؤمنون الحقيقيون، هم الذين يحرصون على هذا الصدق، لأنهم يتذكرون ثوابه الجليل، الذي أشار إليه القرآن الكريم في سورة المائدة: قال تعالى: ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة:119].
- ولأنهم يتذكرون مآل الكذب والكاذبين، فالقرآن الكريم يقول في سورة الزمر:
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر:60].
العبرة والتطبيق:
أيها الناشئة: [المؤمن والمؤمنة]:
- ممّا سبق ذكره عن الصدق يَجْدُرُ بكَ أن تعتبر وتطبق ما يلي:
أولاً- خذ عهداً على نفسك أمام الله أن تلتَزم الصدق في كل أقوالك وأحوالك وأعمالك.
ثانياً- إياك والكذب، فأنت فتى مؤمن تحب الله وتعلم أن الله معك، وأن الله يعلم كل شيء.
فأنت تخاف الله ولا تخاف غيره، وتريد الله ولا تريد سواه.
ثالثاً- إياك والخوف من الصدق، ولا تستمع للشيطان وهوى النفس فالصدق سينجيك.
رابعاً- كن مسروراً عندما تصدق ولو وجدت أنه سيفوتك بالصدق شيء، فسوف يُعَوِّضك الله بأكثر مما تفكر وتريد وترغب.
خامساً- كن جريئاً في كل المواقف، واصدق أمام جميع الناس، فسوف يُُقدِّرك الجميع ويزدادون لك احتراماً، ويرضى الله عنك.
سادساً- كن صادقاً مع الصغير والكبير، حتى مع الحيوانات في معاملاتهم ونداءك لهم.
سابعاً- احفظ واعمل بقول سيدنا عمر رضي الله عنه: [لأن يضعني الصدق وقلَّما يفعل أحبُّ إليَّ من أن يرفعني الكذب وقلَّما يفعل].
* المرجع:
- الآداب الشرعية: الإمام محمد بن مفلح.
- الآداب الإسلامية: د. محمد خير فاطمة.
- خلق المسلم: د. وهبة الزحيلي.
طباعة
ارسال