عقد الرافعي- رحمه الله- في كتابه (إعجاز القرآن) فصلاً سماه (آداب القرآن) تحدث فيه عن نوع من الإعجاز القرآني سماه (الإعجاز الأدبي) أو ما تسميه (الإعجاز الأخلاقي)، وقد فتح هذا العنوان لي مجال البحث في الأخلاق القرآنية، تلك التي تحلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحق أن يمدحه الرب جل وعلا من عليا سماواته، ويخاطبه قائلاً له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [ن:4] ولا عجب فقد أراد الله عز وجل بحكمة أن ينزل من السماء قرآنه العظيم، وأن يجعل هذا القرآن خلقاً لرسوله الكريم، فرأى الجيل الأول من الأصحاب رسول الله قرآنا يقرؤونه، وإنسانا كامل الإنسانية يتجلى في شخصيَّته القرآن الكريم قولاً وعملاً واعتقاداً وأخلاقاً، فما أعظم محمداً صلى الله عليه وسلم من رسول، عرض على الناس قرآن الله في كتابه المكنون، كما عرض عليهم تطبيقاً للقرآن في خلقه العظيم.
يقرر القرآن الكريم أن الإسلام هو فطرة الإنسان، وأن الإنسان لو نشأ دون أن تعمل في طباعه يدا والديه لما كان إلا مسلماً، إذ الإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة:138].
والمجتمع الإنساني بهذا المفهوم ليس كمجتمع الغاية، لكنه شعوب وقبائل خلقت لتتعارف وتتعاون وتتحاب في الله وتنطلق في طريق العمل لخير الإنسانية، ومن يحرز قصب السبق في عمل الصالحات فهو الذي نال قصب السبق في مضمار الكرامة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].
إن من يدرس آي القرآن دراسة عميقة يجده قد خصص أكبر مساحة من صفحاته للأخلاق حتى لقد ذهب علماء التفسير إلى أن كل آية في القرآن تنطوي على الأخلاق، والمثل العليا، وهذا أمر لم يرد في الكتب السماوية إلا بطريقة عابرة؛ إذ معظم الكلام فيها منصرف إلى القصص حتى لكأن تلك القصص مقصودة لذاتها، والعجيب أن كثيراً من تلك القصص يدعو إلى القتل وسفك الدماء وتدمير عناصر معينة من بني الإنسان، في حين نرى القرآن الكريم شفاء ورحمة ودعوة سامية إلى الإخاء الإنساني تحت لواء التوحيد: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:64].
إن أركان الإسلام كلها يعرضها القرآن عرضاً أخلاقياً، وكأنها جميعاً مجندة لتحقيق الفضائل والأخلاق. يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْـمُنكَرِ﴾ [العنكبوت:45] ويصف الزكاة أنها تطهر النفوس وتنزع منها الشح والبخل والحرص الذميم، فيقول جل من قائل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة:103]، والصوم في القرآن يوصل النفوس إلى تقواها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]، والحج كما يجلِّيه القرآن موسم أخلاق: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197] وعلى الجملة فما من فضيلة من فضائل الإنسانية إلا حث عليها القرآن. وما من رذيلة من رذائل الحياة إلا نهى عنها وأنكرها وحرمها القرآن. وما أجمل أن نختم هذا الحديث عن الإعجاز الأخلاقي للقرآن بهذا القبس المضيء من آي الذكر الحكيم في وصف عباد الرحمن:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 25/63وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا64/25وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا 65/25إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا66/25وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا67/25وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا68/25يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا69/25إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا70/25وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا71/25وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا72/25وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا73/25وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا74/25أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾ [الفرقان:63-75].
اللهم اجعل القرآن منهاج أخلاقنا في الدنيا وشفيعاً لنا يوم القيامة.
وما دامت الإنسانية هي الفطرة، وما دام أصلها كلها ذكراً وأنثى فالناس كلهم إذن سواء لا تفاضل بينهم بعرق أو لون أو نسب، بل إن درجاتهم إنما هي من ثمار أعمالهم ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:132].
إن الذي يفسد الإنسانية هو أنماط التربية المنحرفة التي يغرسها المفسدون في فطرتها، فتحرفها عن صبغة الله إلى أصباغ مزيفة. إن أي إنسان إذا أظهر في سلوكه غطرسة تناقض قانون المساواة، أو تباهياً بعرق أو نسب يفسد الإخاء الإنساني أو تمييزا عنصرياً يهين الإنسانية، فهو حينئذ يمارس عادات ليست من الفطرة، وإنما هي تربية شياطين.
إن كل ما فعله القرآن الكريم في عرب الجاهلية هو أنه رآهم في زخم عادات وحشية، فيها العدوان على الحقوق، وفيها شريعة الغاب من ظلم الضعيف، واستعلاء القوي، وشن الغارات، وسواد الثارات، ووأد البنات، وطمس العقل وتمريغه في سبخة الوثنية المحرفة، فلم يزد القرآن على أن أخذ بيد العرب الجاهليين إلى الفطرة الإنسانية النقية، ولم يزل يربهم على أخلاقها ويسير بهم على منهاجها حتى اقتلع جذور الفساد، وأقام على أنقاضه صرح الإيمان والأخلاق.
لقد علّم القرآن العرب أن الإيمان قد نقلهم من عداوة كافرة- كادت تطيح بهم من على شفا حفرة النار- إلى أخوة مؤمنة جمعتهم تحت لواء الحق ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران:103] ومضى القرآن الكريم في تربية العرب أخلاقيا، حتى لقد شهد علماء الأخلاق أن الدنيا كلها منذ بدء الخليقة لم تشهد جيلاً أعظم أخلاقاً، ولا أشرف نفوساً، ولا أعف أيدياً وفروجاً من جيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ذلك بأنهم اتخذوا من القرآن نهجاً لسلوكهم وإماماً هادياً لهم كلما اضطربت من حولهم وجهات النظر.
طباعة
ارسال