صناديق قمامة تمتلئ ببقايا الطعام الذى يكفى لإطعام أسرة أو أكثر، وأطفال يمسكون هواتف جوالة باهظة الثمن، وينفقون ببذخ يصل إلى حد إحضار الوجبات فى المدرسة بالتليفون ، وعشرات الجنيهات مصروفهم اليومى، بينما هناك رجال وأرباب أسر لا يجدون ما يسدون به رمق أسرهم.
أجهزة مكدسة فى البيوت بلا استخدام، وسيارات فارهة تحت أقدام شباب طائشين، لا يقدرون قيمتها، ولم يُجهدوا فى الحصول عليها، بينما غيرهم قد لا يجدون ثمن تذكرة الحافلة العامة.
تناقضات صارخة تراها فى المجتمع الواحد، وأحيانًا فى الحى الواحد، بل وفى البناية الواحدة، فأين هذه التناقضات من ديننا الوسطى؟ وما أسباب شيوع هذا النمط الاستهلاكى - فى مجتمعاتنا النامية الذى يؤذن - بانفجار قنابل السخط والإحباط بين فئات المجتمع وشرائحه؟ وكيف نتغلب على هذا الزحف المميت لطغيان الترف على قاعدة التوسط والاعتدال.
فى هذا التحقيق محاولة للإجابة
فى بداية حدثيه عبر د. منير عبد المجيد - المستشار السابق لمنظمة اليونسكو العالمية والخبير الاجتماعى - عن أهمية الخوض فى هذا الموضوع، وتناوله بالتفكير العميق العلمى والعملى؛ لأنه يهدد مستقبل الأجيال القادمة، ويرجع بالذاكرة إلى ثورة 1952م بمصر التى أعلنت أنها ثورة على الفساد والتخلف والاحتكار، وأنها دشنت برنامجًا طويل الأجل للتقدم والتنمية، لكن الحكم العسكرى الديكتاتورى الذى استولى على مقاليد الأمور لم يعط للشعب فرصة للارتقاء أو استثمار ثروات البلاد بشكل جيد، فظل الشعب يرزح تحت الفقر.
وفى الوقت ذاته لم يُرب الشعب على القيم الإيجابية التى يدعو إليها الإسلام كالجدية والصدق والتعاون والابتكار.
وبرغم مرور 50 عامًا وأكثر على الثورة، فإن حصيلة ما تحقق من إنجازات لم تخف ظهور وانتشار اتجاهات سلبية عديدة فى مقدمتها عدم الجدية، وعدم الالتزام وإهمال البحث العلمى الذى يعد بوابة التقدم.
فكانت النتيجة أن احتلت مصر موقعًا فى الثلث الآخر من تصنيف دول العالم من حيث معايير التقدم والنهضة، وفى الوقت ذاته أعلنت المؤسسات والتقارير الدولية أن حوالى 50% من الشعب المصرى يعيش تحت مستوى الفقر، وإذا كانت هذه النسبة تعنى أنه لا مجال لديه للإنفاق الترفى، فإن هناك فئة قليلة تعيش حياة مترفة، سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة، وهذه الفئة حصَّلت ملايين الجنيهات بلا عناء أو مشقة، فلا يقدرون للمال قيمة؛ فينفقونه فى الغث والسمين.
وفى المقابل تسعى الفئات الأقل إلى تحسين مستواها المعيشى مقارنة بهذه الفئة المترفة، ويلجأ بعض المنتمين إلى هذه الفئات إلى حل مشاكلهم الاقتصادية عن طريق الرشوة أو السرقة، أو عن طريق ممارسة أكثر من عمل فى اليوم لزيادة الدخل ومواجهة غول الأسعار.
وأشار د. عبد المجيد إلى التأثيرات السلبية لانتشار ظاهرة الإنفاق الترفى على الغالبية العظمى من الجماهير.
حيث التقليد والمقارنة، فيشعر هؤلاء بالنقص والغبن (الظلم)، والغيرة والإحباط، مما قد يدفعهم إلى سلوكيات اجتماعية أو حرفية أو مهنية غير مشروعة لمحاكاة هذه المستويات، وإشباع ثورة الطموحات لديهم.
وعن مواجهة هذه الظاهرة نبه د. عبد المجيد إلى حاجة الأبناء إلى التربية على حسن التعايش والفهم والجدية، والعمل المثمر، والثقة بالنفس، والتوازن والسعى لترقية الذات، والإنفاق فى حدود الإمكانات، وضرورة ربط التعليم بحاجة المجتمع والمهن المطلوبة، وإعادة الدور التربوى للمدرسة كصانعة للأجيال، وبيئة حاضنة للقيم الإيجابية، وطاردة للقيم السلبية كالغش والإهمال والكسل والقهر.
القابلية للاستهواء الإعلانى
أما د. منال أبو الحسن - أستاذة الإعلان بجامعة القاهرة - فقد تناولت أثر الإعلام عمومًا، والإعلان بصفة خاصة فى تضخيم ظاهرة الإنفاق الترفى، وبخاصة داخل الأسرة، فأشارت إلى أن الأسرة المصرية لها طباع خاصة فى الإنفاق، وإن كانت تزداد وتتدعم بخروج المرأة إلى العمل والتسوق؛ لأنها أكثر تعرضًا للدراما والإعلان من الرجل الذى يميل إلى مشاهدة الرياضة والأخبار.
ومن ثَم فالبنت هى أكثر الفئات قابلية للاستهواء، وتصديق الإعلان، فإذا كان الإعلان لا يعتمد على الجانب العقلى، بل يخاطب العاطفة والهوى، وعناصر الجاذبية عند الفتاة، فإنه يكون أكثر خطورة على المراهقات اللاتى ينفقن الكثير على الزينة وأدوات التجميل.
وهذه الخطورة المتوقعة تفرض عليها أن تتحلى بدرجة من الرشد فى الإنفاق على هذه البنود، وحسن الاختيار بين هذه الأدوات قبل الشراء، وكذلك الأم تواجه نفس المشكلة، فالفواصل الإعلانية داخل الدراما، وتكرار الرسالة الإعلانية تخلق نوعًا من سرعة اتخاذ القرار عند رؤية الإعلان، فلا تتخذ قرار شراء صائبًا لأنها لم تر السلعة، ولم تختبرها، وإنما تعتمد على المؤثرات السمعية والبصرية المرئية.
فالقرار غير الصائب يؤدى إلى:
- شراء سلع غير ضرورية.
- تكرار أو تكدس للسلع الموجودة، وعدم مراعاة أولويات الشراء، وهذا يمثل عبئًا على الأسرة.
- الإعلان عن سلع أقل جودة، فيتم التغرير بها وخداعها، فتقع فريسة للمنتج والمعلن غير الأمين.
وأضافت د. منال أن الأم قدوة لبناتها، ولذلك فإذا مارست الأم هذا السلوك الترفى فى الإنفاق، فإن بناتها يقلدنها فى سرعة الشراء غير الرشيد أو غير المدروس.
وعن تأثير هذا السلوك على علاقتها بزوجها أشارت د. منال إلى أن مبدأ الشورى فى علاقتها بزوجها يتعطل بتسرعها فى اتخاذ قرار الشراء بدون استشارة زوجها، أو عدم التنسيق معه، مما يخلق مشكلات زوجية.
ومن ناحيتها تصاب الزوجة باهتزاز نفسى نتيجة اتباع الهوى، والتسرع فى الإنفاق والشراء، فتفقد التوازن النفسى والسلوكى الذى أشارت إليه الآية الكريمة {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا}.
ولا شك أن هذا الإنفاق الترفى لا الاستهلاكى المبالغ فيه يلقى بظلاله على الاقتصاد القومى نفسه؛ إذ يستنزف جزءًا كبيرًا من طاقة الاقتصاد القومى فتسود ثقافة الاستهلاك، مما يؤثر سلبًا على جميع قطاعات الدولة.
تعديل السلوك
ووجهت د. منال عدة نصائح للأسرة بتعديل سلوكها فى الإنفاق منها:
- التروى فى قرار الشراء، وعدم التعرض للإعلانات بكثافة، خاصة إذا كان أحد أفراد الأسرة يعانى هوس الشراء لذاته، فتشاهد السلعة قبل شرائها وتختبر جودتها.
- على الزوجة أن تعين زوجها على ممارسة القوامة داخل البيت، وتفعيل قاعدة الشورى داخل الأسرة فى كل الأمور المشتركة بما فيها قرار الشراء.
- الاستخارة قبل الشراء.
- وإذا كان لدى الزوجة أو الزوج مال فائض، فيا حبذا لو تصدقت - أو تصدق - بجزء منه على المحتاجين فى الداخل والخارج.
- أن تقدم قدوة صالحة لأولادها فى المشورة تجاه قرار الشراء، بحيث يصبح القرار جماعيًا سواء بالشراء أو عدم الشراء.
وكلما تباعد الوقت بين مشاهدة الإعلان وقرار الشراء كان القرار أكثر رشدًا وعقلانية وأقل عاطفية.
المال مال الله
ويتحفظ د. أحمد عبد الرحمن - أستاذ الأخلاق - على موقفنا كمسلمين من المال كسبًا وإنفاقًا، فالرجل قد يكون مسلمًا لكنه لا يتورع عن الكسب الحرام، وبالنسبة للإنفاق فهناك إسراف فى أشياء كثيرة - حتى لدى الطبقة الوسطى - منها: الإسراف فى الماء (وهو كبيرة من الكبائر)، وكذلك فى المأكل والملبس والفراش والأثاث والسيارات وغيرها، مما يسبب أزمات اجتماعية وأسرية كثيرة بسبب هذا الإسراف الذى يعكس جهلاً بالحكم الشرعى السليم، وهذه هى مسئولية الأسرة ومؤسسات التربية عمومًا.
فإذا تخلت الأسرة عن هذه المسئولية استقى الأبناء قيمهم من التليفزيون والإعلام والأصدقاء، فتنتقل إليهم خبرات سلبية حول عدم احترام المال والإسراف فى استخدامه وإنفاقه.
ونبه د. أحمد عبد الرحمن إلى حرمة الإسراف حتى فى العبادات مثل: تكرار الحج أو العمرة، وضرورة توجيه أموال الحج والعمرة بعد الفريضة - إلى أعمال الخير (كفالة أيتام، أرامل، مرضى، عجزة).
وإغاثة المسلمين لها فضل عظيم وأجرها واسع، ويكفى أن نعرف أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يحج إلا مرة واحدة، فعلينا أن نعيد النظر فى المال فى كسبه، وتداوله، وإنفاقه، فالمال مال الله، ونحن وكلاء مستخلفون فيه، نتصرف فيه بحسب إرادة المالك، وترسيخ هذا المفهوم يحتاج إلى عمل تربوى جاد، تتضافر فيه جميع أجهزة التنشئة والتربية.
الرزق والإنفاق
وفى كتابه (الرزق) ربط الشيخ محمد متولى الشعراوى (رحمه الله) الرزق بالإنفاق والانتفاع به، ففى الحديث الشريف يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يقول ابن آدم مالى مالى، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟» فهذه الأوجه الثلاثة التى حددها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث هى أبواب الرزق بالنسبة للإنسان، فالإنسان ليس له من ماله إلا هذه الأوجه الثلاثة، ثم بعد ذلك ما يملكه ليس رزقه ولا ماله، إنما هو مكلف - دون أن يدرى - بمهمة توصيل أقدار الله لبعض خلق الله.
وأضاف أن الصدقة رزق؛ لأنها ينتفع بها برغم أنها فى ظاهرها أخذ من مال الإنسان المتصدق، لكنها رزق معنوى، ينتفع به الإنسان فى الدنيا والآخرة، وهذا ما يسمى رزق القيم، الذى يحفظ حركة الحياة من الشراسة، والعنف، والظلم، والإسراف الترفى.
* المصدر: موقع الجمعية السعودية للسنة وعلومها.
طباعة
ارسال