طريقة السلف العامة في التفسير هي طريقة الإجمال وعدم التفصيل.
قال أبو جعفر النحاس ـ في كتابه «معاني القرآن» ـ في معرض نقله مذاهب السلف في الأحرف المقطعة: «وأبين هذه الأقوال قول مجاهد الأول: أنها فواتح للسور، وكذا قول من قال: هي تنبيه، وقول من قال: هي افتتاح كلام.
ولم يشرحوا ذلك بأكثر من هذا؛ لأنه ليس من مذاهب الأوائل، وإنما يأتي الكلام عنهم مجملاً، ثم يتأوله أهل النظر على ما يوجبه المعنى».
وقال شيخ الإسلام في رسالته الموسومة بـ: «تفسير آيات أشكلت: حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير فيها صواب بل لا يوجد فيها إلا قول خطأ».
قال في تفسير قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6]:
«وقال الحسن: أيكم أولى بالشيطان، قال: فهم أولى بالشيطان من نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، فبين الحسن المعنى المراد، وإن لم يتكلم على اللفظ؛ كعادة السلف باختصار الكلام مع البلاغة وفهم المعنى».
ويستفاد من قول هذين العالمين أن طريقة السلف العامة في التفسير هي طريقة الإجمال لا التفصيل، وذلك لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى التفصيل كما احتاجه المتأخرون، الذين بعدت ألسنتهم عن لسان العرب فاحتاجوا إلى زيادة التفصيل لبيان المعنى، وللسلف في تفسيرهم طرق وتعابير يستعملونها عند تفسير القرآن. ويمكن استنباط هذه الطرق من جرد كتب التفسير التي تهتم بعبارة السلف وتعلق عليها. ودونكها مجملة، ثم يأتيك [77] التفصيل مع المثال:
1 - التفسير بالمطابق، أو ما وضع له اللفظ.
2 - التفسير باللازم، ويدخل ضمنه التفسير بالنتيجة.
3 - التفسير بجزء المعنى.
4 - التفسير بالمثال.
5 - التفسير بالقياس والاعتبار.
6 - التفسير بالإشارة.
تفصيل هذا بالأمثلة:
1 - التفسير بالمطابق، أو بما وضع له اللفظ:
المراد به: ما وُضعَ له اللفظ في لغة العرب، فيعمد المفسر إلى تفسير اللفظة بما وضعت له في لغة العرب، وهذا هو التفسير المباشر للفظ.
• وقد ذكر هذه الطريقة ونبَّه عليها إمام المفسرين، الطبري، فقال: «فَحَمَل تأويلَ الكلام على معناه دون البيان عن الكلمة بعينها؛ فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليها» .
• وقال شيخ الإسلام: «فإن منهم ـ يقصد مفسري السلف ـ من يعبر عن الشيء بلازمه ونظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه».
ومثاله تفسير قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2]، قال قتادة، والضحاك: {مَسْطُورٍ}: مكتوب.
وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5]؛ أي: فتتت.
ورد ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وإسماعيل السدي، وأبي صالح.
وكذا تفسيرهم للودود في مثل قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] بأنه المحب لأوليائه.
2 - التفسير باللازم:
• دلالة الالتزام هي أحد دلالات الألفاظ العقلية.
والمراد بها أن المعنى المستفاد لم يدل عليه اللفظ مباشرة، ولكن يلزم منه هذا المعنى المستفاد عقلاً أو عرفاً؛ كالكتابة تستلزم كاتباً.
ومن أمثلته:
تفسير الودود بالمحبوب من أوليائه.
فالودود: أي الواد لأوليائه؛ كالغفور بمعنى: الغافر. فهذا تفسير بالمطابقة ـ كما مرَّ ـ ويلزم منه محبة أوليائه له، وهذا تفسير باللازم.
ومن أمثلته ـ أيضاً ـ تفسيرهم قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] قيل: معناه تندمون، وهذا تفسير باللازم، وإنما الحقيقة تزيلون عنكم التفكُّه، وإذا زال التفكّه خَلَفَهُ ضِدُّه.
وفي قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} الآية [الأعراف: 175، 176].
قال ابن القيم: «قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ} عائد على الكفر، والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا، قال مجاهد وعطاء: لرفعناه عن الكفر بالإيمان وعصمناه. وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية، وهذا من لوازم المراد. وقد تقدم أن السلف كثيراً ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها».
ومما يجدر التنبيه عليه هنا: أنه قد يَرِدُ عن السلف تفسير لبعض صفات الله بلازمها، فيظنُّ القارئ لها أن السلف يؤوِّلون صفات الله سبحانه، وهذا ليس بصواب، وذلك لأن الأصل عند السلف هو أن صفات الله على الحقيقة، ولا يجوز التأويل، فإذا رأيت مثل هذا فاعلم أنهم لا يؤوِّلون؛ لأنه لم يرد عن أحدهم أنه أنكر الصفة، وفرق بين إنكار الصفة، والتفسير باللازم.
أما ما تراه عند الخلف المتأخرين من تفسير الصفة بلازمها، فإنه تأويل لها، وذلك لأن مذهب هؤلاء هو التأويل، ولذا يعمدون إلى تفسيرها بلازم الصفة، قال السيوطي: «قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسَّر بلازمها»، والعلماء الذين ينسب إليهم السيوطي هذا القول هم المتكلمون من الأشاعرة وغيرهم. فتأمل.
3 - التفسير بجزء المعنى:
المقصود به أن المفسِّر يذكر من المعنى الذي يحتمله اللفظ جزءاً منه، ليدل به على باقي المعنى.
ومنه تفسير من فسَّر قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، قال ابن القيم: «... مباركاً: معلماً للخير أينما كنت. وهذا جزء مسمى المبارك: فالمبارك: كثير الخير في نفسه، الذي يحصله لغيره تعليماً أو نصحاً، وإرادة واجتهاداً ...».
4 - التفسير بالمثال:
وقد مر ذكره في اختلاف التنوع.
ومن أمثلته قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، قيل: الحسنات الصلوات، وقيل: قول الرجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال ابن عطية: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات.
وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قال زرٌّ: الغيب: القرآن. وقال عطاء: الغيب: القدر، قال الراغب: وقول زرٍّ بأن الغيب: هو القرآن، وقول عطاء: أنه القدر؛ تمثيل لبعض ما هو غيب، وليس ذلك بخلاف بينهم، بل كل أشار إلى الغيب بمثال.
5 - التفسير بالقياس والاعتبار:
المراد به أن يُدخِل المفسر في حكم الآية شيئاً؛ لأنه مشبه للآية في العلة.
ومن أمثلته: قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43].
فقد روي عن ابن عباس في معنى سكارى: أنه النعاس.
وكذلك روي عن الضحاك أنه قال: لم يعنِ الخمر، وإنما عنى به سكر النوم.
قال شيخ الإسلام ـ معلقاً على قول الضحاك ـ:
«وهذا إذا قيل: إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار؛ أي: القياس، أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السكر من الخمر، واللفظ صريح في ذلك، والمعنى الآخر صحيح أيضاً».
فصحَّحَ شيخ الإسلام دخول السكر من النوم أو النعاس في معنى الآية للمقايسة بينهما، والعلة هي عدم العلم بما يقول.
6 - التفسير بالإشارة:
التفسير بالإشارة له تعلق بما قبله، ولقد نبَّه شيخ الإسلام على ذلك فقال: «... تلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص، مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام».
وقال في موضع آخر: «وأما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دل عليه اللفظ، ويجعلون المعنى المشار إليه مفهوماً من جهة القياس والاعتبار، فحالهم كحال الفقهاء والعالمين بالقياس والاعتبار، وهذا حق إذا كان قياساً صحيحاً لا فاسداً، واعتباراً مستقيماً لا منحرفاً».
وقد مضى ذكر شروط قبوله، ومن أمثلته تفسيرُ ابن عباس، وعمر بن الخطاب سورة النصر بأنها قرب أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن حجر معلقاً على هذا التفسير: «وفيه جواز تأويل القرآن بما يُفهَمُ من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: أو فهماً يؤتيه الله رجلاً بالقرآن» .
------------
* المصدر: فصول في أصول التفسير: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار.
طباعة
ارسال