الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين ، وبعد:
فإن حسن الأخلاق من صفات الكمال؛ ولذا كمّل الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم فكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا كما قال أنس رضي الله عنه، وقد لازمه عشر سنوات في خدمته فهو من أعلم الناس به. ومن جميل العشرة، وحسن الخلق؛ تحري الأدب مع الناس. وإذا كان البر يبذل للوالدين، والصلة تكون للرحم، وحسن العشرة يصرف للزوج والولد؛ فإن الناس يسعهم التأدب معهم في القول وفي الفعل. والمهذبون من الناس في ألفاظهم، المؤدبون في أفعالهم؛ محل محبة وتوقير واحترام من الناس؛ لأن الناس يحترمون من يحترمهم، ويزدرون من يزدريهم. والنبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب أعظم الأمثلة في الأدب واحترام الناس، ويجب أن تتعلم أمته الأدب منه؛ لأن أدبه عليه الصلاة والسلام من عند الله تعالى؛ ولأن في تعلم الأدب منه؛ تأسيا به، وعملا بسنته.
قال القرطبي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: «حفظه الله تعالى من صغره، وتولى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره. ولم يزل الله تعالى يفعل به حتى كرَّه إليه أحوال الجاهلية، وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كل ذلك لطف به، وعطف عليه، وجمع للمحاسن لديه». وأدب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس كثير جدا، وحُفظ في سنته أدبه مع الرجال والنساء والأطفال، وفي مجالات عدة، ومناسبات كثيرة: فمن أدبه صلى الله عليه وسلم في الاستئذان: ما حكاه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» (رواه أبو داود)، وفي رواية: «فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ». ومن أدبه صلى الله عليه وسلم في المناجاة والمصافحة: ما رواه أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأَسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ» (رواه أبو داود).
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم في مجالسته للناس:
أنه يعامل كل واحد من جلسائه بحسب حاله، فيتبسط مع من يتبسط معه، ويستحي ممن يستحي منه، كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ". وفي رواية قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ، إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ". (رواه الشيخان).
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم في إجابة الدعوة:
أنه إذا تبعه أحد إليها يستأذن صاحب الدعوة؛ لاحتمال أنه لا يريده، يفعل ذلك وهو نبي والصحابة يلتمسون رضاه، ومع ذلك لا يتجاوز حدود الأدب معهم، روى أَبو مَسْعُودٍ البدري رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ، كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجُوعَ، فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ؟" قَالَ: نَعَمْ. (رواه البخاري).
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم مع صانع الطعام:
أنه إن عافه ولم يعجبه لم ينتقده، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ». (رواه الشيخان).
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم مع الأطفال:
أنه كان لا يهدر حقهم بحضرة الكبار؛ كما في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟"، فَقَالَ الغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ. متفق عليه.
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم في رد الهدية:
أنه يبين سبب ردها؛ لئلا يقع في نفس مهديها شيء؛ كما في حديث الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ". (متفق عليه).
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم في تصحيح الأخطاء:
أنه لا يواجه صاحب الخطأ بلا حاجة تقتضي ذلك؛ لعلمه بكراهته لذلك؛ كما روى أَنَسٌ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ صُفْرَةً فَكَرِهَهَا، قَالَ: "لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَغْسِلَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ". قَالَ: وَكَانَ لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَدًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ. (رواه أحمد). ولذا كثيراً ما كان يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا".
إن الأدب مع الناس طاعة يؤجر المحتسب فيها كما يؤجر على صلاته وزكاته وسائر عباداته "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". (رواه الترمذي وصححه). أيها المسلمون: إن التزام الخلال النبوية، والتخلق بالآداب المرعية، مع ما فيه من عظيم الأجر؛ فإنه بريد إلى قلوب الناس يحببهم في صاحبه، فيحبونه ويألفونه ويأنسون بمجلسه، ويشرفون بصحبته؛ لما يرون من حسن خلقه، وعظيم أدبه. والإنسان يأخذ من الناس بحسن أدبه، وحلو منطقه، وطلاقة وجهه، ما لا يأخذه منهم بعبوسه وتجهمه وسوء أدبه وقبيح لفظه. والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في الأخلاق والآداب كما يكون في العبادات، سواء بسواء. فلنتأس به في معاملته للناس، ولنتأدب بأدبه، ونلتزم هديه؛ ففي ذلك حسنة الدنيا وحسنة الآخرة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فالمتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم مثبت محبته، ملتزم شريعته، مصدق خبره، لا يغير ولا يبدل حتى يلقى نبيه صلى الله عليه وسلم على الحوض فيشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا.
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال