روى الإمام الطبراني والبزار بسند حسن عن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: [ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه]. فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن اتباع المرء هواه من المهلكات أي من الأمور التي تورد أصحابها موارد الهلكات.
أولا: معنى الهوى
الهوى: مصدر هوي الشيء يهواه، إذا أحبه واشتهاه.
وقالوا في تعريفه: هو ميل النفس إلى ما يلائمها.. وقيل: ميلها لما تحبه وتهواه.
والهوى كالغضب منه ممدوح محمود، ومنه مذموم ومردود. فإذا كان ميل النفس إلى ما يوافق الشرع والدين، ويحفظ الشرف والمروءة، ويعلي مكارم الأخلاق؛ كان هواها محمودا مطلوبا اتباعه. وأما إن كان هواها وميلها إلى ما يخالف الشرع والدين، ويخل بالمروءة، ويورد موارد الهلاك، ويسلك بصاحبه مسالك السوء والضلال، كان قبيحا مذموما مطلوبا اجتنابه.
ولما كان الغالب على الهوى هو القسم الثاني؛ غلب عليه وصف الذم حتى لا يكاد يمتدح:
يقول ابن عباس رضي الله عنه: "ما ذكر الله عز وجل الهوى في كتابه إلا ذمه".
وقال الشاطبي والشعبي قبله: "إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار".
قال بعض الشعراء:
ولـقد رأيــــت معاشرا جمــحـت بهم .. .. تلك الطبيعة نحو كل تبار
تهوى نــفوسُهــم هــوى أجســامِــهم .. .. شغلا بكل دناءة وصغــار
تبعوا الهوى فهوى بهم، وكذا الهوى.. .. منه الهــوانُ بأهله فحــذارِ
قـــــاد الهــــوى الفجـَّار فانقـادوا لـه .. .. وأبتْ عليه مقــادة الأبرار
شبهة وشهوة
والهوى إما أن يكون في الشبهات أو في الشهوات، ولا شك أن فتنة الشبهات أعظم ضررا، وأشد خطرا من فتنة الشهوات؛ لأن الشبهات إنما تكون في العقائد والأساسيات، والأصول والمسلمات، فإذا تواردت على القلب أضعفته، وحرفته عن صحيح المعتقد، وربما أصابه الشك والحيرة، وقد لا يقتنع صاحبه بشرع الله، لا يسلم لأمره، ولا يرضى بدينه؛ ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: "واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات".
الهوى سبب للكفر:
لقد كان اتباع الهوى من أعظم الأسباب التي منعت الكفار في كل زمان ـ والمشركين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ـ من ابتاع الحق وترك ما هم عليه من الشرك، ومخالفة كلام الأنبياء لاتباع ما كان عليه والأجداد والآباء، فتركوا الحق لاتباع الهوى، قال تعالى: {وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر}(القمر: ) ، وقال سبحانه في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (لنجم:23).
وأهل الكتاب إنما حملهم على الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يوافق هواهم، ولم يأت من بنى إسرائيل على مرادهم، وجاءت شريعته مخالفة لهوى نفوسهم فكذبوه، مع يقينهم بأنه رسول من الله تعالى إليهم وإلى العالمين قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(البقرة:87).. فما أهلك الدين والدنيا غير الهوى المسلط على العقول والنفوس.
الهوى أصل كل بدعة
ولئن كان الهوى هو الذي حمل المشركين على شركهم، وأهل الكتاب على تكذيبهم فهو هو الذي كان منشأ البدع في هذا الدين.. فأهل البدع استهوتهم مقالات فاعتنقوها وهويت نفوسهم أمورا فسلموا بها ولها وقبلوها، وحملتهم على سفك الدماء الحرام وتكفير المسلمين فأطاعوها، وإنما كله بسبب الجهل والهوى.
والذين قالوا على الله بغير علم، فأنكروا عنه ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله الكريم، وعاشوا ما بين معطل يعبد عدما أو مشبه مجسم يعبد صنما، تعالى الله عما يقول الظالمون الجاهلون علوا كبيرا. وإنما حملهم على ذلك الهوى والإعجاب برأيهم وترك الكتاب والسنة. وعلامة صاحب الهوى أنه لا يقبل أدلة الكتاب والسنة ويرد ما يخالف هواه ـ وإن كان صحيحا.
أصحاب الأهواء في كل زمان
وفي زماننا ظهر أصحاب هوى وأصحاب شبهات، فالذين يتحدثون عن حقوق المرأة وظلم الإسلام لها في الزي والميراث وعدم مساواتها بالرجل، هم في الحقيقة من أهل الأهواء.
والذين يهاجمون الحجاب والنقاب ويزعمون أنه بدعة جاهلية، ولا أصل له في الدين، وأنه تخلف، وكونه يغطي العقل والفكر هم في حقيقتهم أهل أهواء.
والذين يطعنون في عقوبات الإسلام ويصفونها بالرجعية والتخلف والهمجية، ويستبدلون شريعة الله وقوانينه بقوانين البشر شرقا وغربا هم أهل أهواء.
وكل هؤلاء ينبغي على المسلم أن يحذر منهم ولا يسمع لهم، وهم داخلون في تحذير السلف وتحذير الله تعالى في قوله: {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا}.
أهواء الشهوات:
واتباع الهوى كما يكون في الشبهات يكون كذلك في الشهوات، وهو وإن كان في الشهوات أوسع إلا إنه في الشبهات أضر وأشنع.
فمن الناس من يكون هواه في الرياسة والملك، ومنهم من تكون شهوته في الرفعة والشهرة، ومنهم من هواه في الجاه والسلطان، وكثير منهم من يستهويه حب المال، وأكثر منهم من يكون هواه في النساء ما بين مشاهدات ومراسلات ومعاكسات أو حتى وقوع في الفاحشة، أعاذنا الله تعالى منها.
ثانيا: ذم الهوى في الكتاب والسنة:
ولما كان هذا هو حال الهوى وما يفعله بأصحابه ورد ذمه والنهي عن اتباعه في الكتاب والسنة تحذيرا وتنبيها : وقد سبق قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ما ذكر الله عز وجل الهوى في كتابه إلا ذمه". وسواء في ذلك اتباع هوى النفس أو اتباع أهواء الآخرين.
قال الله لنبيه داود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(صّ:26)
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(الجاثـية:18)، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(المائدة:49) وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)(الشورى:15).
وقال لعباده المؤمنين: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)(المائدة:77) وقال لهم أيضا: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)(النساء:135)، أي لا تتبعوا الهوى فيحملكم على عدم العدل وعدم الإنصاف.
وأما السنة فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام: [لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به]، وقال صلى الله عليه وسلم: [والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني]. وقال عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات: [إن مما أخاف عليكم: شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى](رواه أحمد وحسنه الألباني).
وكذلك لما علم السلف أثر الهوى بأصحابه حذروا من الجلوس إليهم والسماع منهم حماية للدين وصيانة للعقل.
قال ابن عباس: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب.
وقال مجاهد: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب. "أي يعدونكم كما يعدي البعير الأجرب بقية الإبل".
وقال إبراهيم النخعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين".
قال أبو الجوزاء: "لأن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إلى من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء".
وهذا إن دل فإنما يدل على خطورة اتباع الهوى ومجالسة أهله.
تسلط الهوى:
إن جميع المعاصي والبدع إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ـ كما يقول ابن رجب رحمه الله ـ قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}[القصص:50].
وإن الهوى ليتمادى بصاحبه حتى يتمكن منه حتى يعسر عليه تركه، وكما يتجارى الكلب بصاحبه، وربما زاد حتى يصير صنما في قلبه وإلها يعبده من دون الله، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الفرقان:43]. وليست عبادة الهوى أن يسجد له ويصلي له ويصوم، وإنما كما قال قتادة: "هو الذي كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى".
وهؤلاء هم الذين أخبر الله عنهم وحذر منهم فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(الجاثية:23). وقال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}(الجاثية:18ـ20)
------------
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال