وضع علماء القراءات شروطًا أو ضوابط للقراءة الصحيحة، جمعها ابن الجزري وحررها، وفصل القول فيها حتى صارت تنسب إليه واقترنت باسمه. قال في الطيبة:
فكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالًا يحوي
وصح إسنادًا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة
وفصل القول في ذلك في كتابه "النشر في القراءات العشر"، فقال: "كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم؛ هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام أبو عمرو الداني، ونص عليه مكي بن أبي طالب، وأبو العباس والمهدوي، وأبو شامة.. وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه".
وبهذا يظهر أن ضوابط أو شروط القراءة الصحيحة ثلاثة هي:
موافقة اللغة العربي ولو بوجه من الوجوه:
الأول: موافقة اللغة العربية ولو بوجه من الوجوه.
فلا بد أن توافق القراءة اللغة العربية، ولا يلزم أن توافق الأفشى في اللغة؛ بل يكفي أن توافق أي وجه من أوجه اللغة، قال ابن الجزري: "وقولنا في الضابط "ولو بوجه" نريد وجهًا من وجوه النحو؛ سواء كان أفصح أم فصيحًا مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح؛ إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية، فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو، أو كثير منهم، ولم يعتبر إنكارهم، بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها كإسكان "بَارِئْكُمْ"، و"يَأْمُرْكُمْ"، ونحوه.. وضم، "الْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"، ونصب "كُنْ فَيَكُونَ"، وخفض "وَالأَرْحَامِ"،.. ووصل "وَإِنَّ الْيَاسَ"، وألف {إِنْ هَذَانِ}.. وغير ذلك. قال أبو عمرو الداني في كتابه جامع البيان. "وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على لأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية، وإذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها".
الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
وذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- عندما كتبوا القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- تعمدوا كتابته بطريقة تشتمل على جميع القراءات الثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما صراحة أو احتمالًا، وأي قراءة لا توافق رسم المصحف فإن ذلك يعني أن الصحابة لا يعرفونها وإلا لكانوا قد كتبوها، والقراءة التي لا يعرفها الصحابة ليست بقراءة صحيحة، فمن ذا الذي يدعي معرفة قراءة لا يعرفها الصحابة -رضي الله عنهم-!! ِ
قال ابن الجزري: "ونعني بقولنا بـ"موافقة أحد المصاحف" ما كان ثابتًا في بعضها دون بعض، كقراءة ابن عامر "قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا" في البقرة1 بدون واو، "وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ"2 بزيادة الباء في الاسمين ونحو ذلك، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي، وكقراءة ابن كثير "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ" في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة "من"، فإن ذلك ثابت في المصحف المكي..
وقولنا بعد ذلك: "ولو احتمالًا" نعني به ما يوافق الرسم ولو تقديرًا؛ إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقًا وهو الموافقة الصريحة، وقد تكون تقديرًا وهو الموافقة احتمالًا، فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعًا؛ نحو "السموات والصلحات، واليل، والصلوة، والزكوة، والربوا".. وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقًا ويوافقه بعضها تقديرًا نحو "مَلِكِ يَومِ الدّيِنِ" فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف. فقراءة الحذف تحتمله تحقيقًا وقراءة الألف محتملة تقديرًا.
الثالث: صحة الإسناد
قال ابن الجوزي "نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم.
وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب قبوله وقطع بكونه قرآنًا سواء وافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم.
* المصدر: دراسات في علوم القرآن الكريم: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي.
طباعة
ارسال