سأقف بالأخ القارئ وقفة فيها تأمل عميق عند آيتين كريمتين من سورة البقرة، وهما قوله جل وعلا: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ256/2اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:256-257]. هاتان الآيتان تقرران حقيقة كبير ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وبقية الآيتين شرح لهذه الحقيقة وتعليق عليها، وهذه بعض إشارات بلاغية وتوحيدية حول الآيتين:
أولاً: احترام العقل طابع مميز لدين الإسلام، وإذا كانت معجزات الأنبياء عليهم السلام، قادت الناس بخوارق العقل، فإن معجزة القرآن قادت مواكب الإنسانية إلى الإيمان بشعاع العقول وأنوار فكرها، ومن هنا كان قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ تكريما للإنسان واحتراما لفكره وشعوره، وتقريرا لمبدأ حرية الفكر والعقيدة؛ لأن حرمّة الفكر إذا سلمت من تأثيرات الرغب والرهب، فلن تقود إلا إلى الدين الخالص دين الله وهو الإسلام.
ثانياً: لا إكراه في الدين، لا نافية للجنس، أي لجنس الإكراه هنا، فجميع أنواع الإكراه هنا منفية، وما على الدعاة المسلمين إلا أن يبينوا للناس رشدهم من غيهم مكملين بذلك رسالة العقل الذي يمكن أن ترين عليه رواسب التقاليد، فما على المسلمين إلا أن يزيلوا تلك الرواسب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمحاجة بالحسنى، وبعدئذ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.
ثالثاً: يروى أن الآية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ نزلت في رجل من الأنصار كان له ولدان تنصرا وسكنا الشام مدة، ثم جاءا إلى المدينة فأرادهما أبوهما أن يسلما فأبيا، فاحتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبوهما: كيف أطيق أن أرى ولدي- وهما بضعة مني- يتحرقان بالنار؟ فكان حكم النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.
رابعاً: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾تبين البون الشاسع بين ممارسات رجال الدين المسيحي، وبين فقه الدعاة المسلمين. أولئك سفكوا دماء إخوانهم ودماء المسلمين، فلم يستطع مسيحي أن يعيش في ظل الكنيسة إلا منقاداً لآرائها حقا كانت أم باطلة، وبذلك الاستبداد ذبح مئات الآلاف من النصارى عبر التاريخ بسكاكين النصارى، وذُبح آلاف المسلمين في الأندلس حين أصروا على الاستمساك بدينهم، بينما عاش المسيحيون في أسبانيا ثمانية قرون ينعمون بحرية العقيدة في ظلال الإسلام:
خامساً: قد يتساءل كيف نوفق بين قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التحريم:9]؟ والجواب: أن الآية الكريمة نزلت بعد خمس عشرة سنة من تحمل الأذى والبلاء، وبد إخراج المسلمين من ديارهم، وبعد غطرسة كافرة وفتنة للمسلمين كانت أشد من القتل، وبعد إصرار من الكافرين على أن يردوا المسلمين كفاراً، ومن هنا فقد كان الجهاد الإسلامي رداً للعدوان، وقصاصاً للظالمين، وكان القتال في الإسلام لشق طريق العقيدة المنيرة في وسط الظلم والظلام، وأخيراً كان الجهاد في الإسلام لنشر مبدأ الحق والعدل والخير في غير تسلط، بل لقد كان الجهاد في الإسلام لتدمير الطغيان والقهر والتسلط؛ لكي يحل محلها المبدأ الإلهي ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.
سادساً: هاتان الآيتان وردتا بعد آية التوحيد العظمى: آية الكرسي، وهي التي أوضحت طريق الرشد، وسبيل المنهج الإسلامي، وصراطه المستقيم، فالرشد هو الإيمان والغيُّ هو الكفر، والإيمان بالله هو معاهدة بين العبد وربه يقوم العبد بموجبها بالولاء لله وحده، ومن ثم يكون جل وعلا وليا للذين آمنوا؛ أي ناصرا ومؤيداً وهادياً يهديهم إلى نور الإيمان والعمل الصالح، ويجنبهم ظلام الكفر والجريمة.
وكذلك فإن من آمن بالطاغوت، فقد عقد أيضاً محالفة مع الطاغوت، والطاغوت كل من عبد من دون الله وهو راض بالعبادة، أو رفض حكم الله وحكم بالهوى. والولاء للطاغوت مسخ للعقل، وطمس للقلب، ومن ثم فإن الطواغيت بضعفهم وعجزهم عن أي نفع، أو ضرر لن يجروا على أتباعهم إلا الجهل والعمى عن الحق، ولا شك أن ولاء العبد للإله الواحد القوى القاهر سيجعله في مأمن من كل شر، ومثل المؤمن إذ يستمسك بالإيمان على كل أحواله، ويسلم ولاء قلبه للإله العظيم الجبار، كمثل من يمسك بعروة وثقى لا تنفصم ولا تبت من حبلها الثابت، فهو دواماً في أمن مهما تهاوى من حوله أهل الضلالة.
سابعاً: ختم الله جل وعلا آية الإيمان والكفر بقوله: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ لأن الإيمان أقوال وأعمال ومعتقدات والقول يتطلب السمع، أما الأعمال والمعتقدات فتتطلب العلم بظاهر الأمور وباطنها، والله جل وعلا يسمع ما يقوله المؤمن وما يقوله غيره، كما يعلم ما يعلمه ويعتقده خلقه جميعا مؤمنين وكافرين.
ثامناً: في الآيتين إشارات بلاغية في غاية الجمال وظيفتها: إيضاح المعنى، وإضاءة طريق التأمل، فالرشد كناية عن الإيمان، والغي كناية عن الكفر، والعروة الوثقى هي كلمة التوحيد المنجية من كل شرّ. أما الآية الثانية فتشتمل على مقابلة في قمة البلاغة والجمال.
﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ ويقابلها كلمات تضادها تماماً ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾، وفي النور والظلمات استعارتان بديعتان.
أسأل الله أن ينور بصائرنا بنور الإيمان، ويهدينا سبل الصلاح والإحسان، ويهدينا في صحراء الحياة إلى واحة الأمان.
* المصدر: من لطائف التفسير: أحمد عقيلان.
طباعة
ارسال