من طبيعة النفس البشرية ألا تعرف خالقها حق المعرفة إلا حال وقوع النكبات ونزول الأزمات، حيث تتحرك بالفطرة لديها دوافع الإيمان والاستسلام لخالق الكون، وتثار لديها نوازع الخضوع لمدبر الأسباب.
وقد ضرب لنا القرآن الكريم -على عادته في توضيح الأفكار- مثلاً، بين من خلاله حالة المؤمنين بالله، والمخلصين له، وحالة الجاحدين به، والمنكرين لآياته، وذلك من خلال مثل مشاهد لكل الناس. إنه مثل السفن التي تجري في البحر، وتمخر عبابه، وتنقل الناس من أماكن بعيدة، حاملة على متنها حاجات الناس ومتطلبات حياتهم. وإذ هي كذلك، تهب رياح عاصفة، تثير أمواج البحر، وتجعل السفن ومن عليها في حالة اضطراب وهلع، لا يدرون ما الله فاعل بهم.
يقول تعالى في بيان هذه الصورة المعبرة: { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } (لقمان:32).
ومن من الناس لم ير السفن في البحر؟ ومع أن الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، بيد أن الله سبحانه يوجه انتباه الإنسان، ويحرك عقله وحواسه إلى آياته سبحانه التي خفيت على أفهام البشر؛ إذ اعتادوا على رؤيتها من غير أن تثير في نفوسهم أية مشاعر، أو يثور في عقولهم أي سؤال..فالسفن تجري في البحر بنعمة الله وفضله، ولو شاء لما سخر تلك البحار لتجري السفن فيها، ولما ألهم الإنسان لصنع تلك السفن التي تمخر البحار والأنهار، ويحقق الإنسان بها مصالحه، ويقضي من خلالها حاجاته.
ولو تأمل الإنسان هذه السفن وهي تجري في البحر كالجبال المتحركة، لأدرك حقاً أنها من الشواهد الدالة، والآيات المبينة التي توجب علينا ألا ننظر إليها نظرة سطحية عابرة، بل ننظر إليها نظرة اعتبار وتأمل؛ لأن هذا التأمل والتبصر يقودنا بالضرورة إلى الإقرار بأن في جريان هذه السفن في البحر آيات بينات لقوم يعقلون، أقلها أن للماء ضغطاً أوجده سبحانه، ينبعث من أدنى الماء إلى أعلاه، يجعله يحمل ثقل الجسم الملقى عليه، بالغاً من الوزن ما بلغ، إذا توفرت له شروط أخرى من الحجم والشكل والصنع.
ونتيجة لذلك القانون الإلهي، كانت تلك الجواري المنشآت التي تجوب عرض البحار، وتعبر آفاق المحيطات، حاملة السلع والبضائع، من أقصى الأرض إلى أقصاها، ومن أبعدها إلى أدناها. أو ليس في ذلك ما يوجب الشكر للخالق سبحانه، والإقرار بأنه على كل شيء قدير؟
والعِبَر من هذه البحار والمحيطات وما يجري فيها من سفن كثيرة، وإحدى هذه العبر أن كثيراً ممن يخوضون غمار البحار، ويجوبون ظلمات المحيطات يصادفون عواصف بحرية، تثير أمواجاً متلاطمة، تبدو كالجبال المظلمة التي تحجب الرؤية عما حولها، وتجعل راكبي تلك السفن في حالة من الخوف والهلاك لا يمكن وصفها وتقديرها إلا لمن عاينها وعاناها، تلك الأمواج التي تثيرها الرياح تجعل السفن أشبه بالأرض التي أصابها زلازل عنيف، فأفقدها استقرارها وسلبها توازنها، وجعلها على حالة من الاضطراب والاهتزاز ما يبدو معه كل من فوقها في طريقه إلى الموت والزوال.
في ظل هذه الأجواء المخيفة، والأهوال المريعة، يتحرك الشعور بالخوف، والتقرب إلى الله بالدعاء وطلب النجاة؛ ذلك أن النفس البشرية، أقرب ما تكون إلى الله في مثل هذه اللحظات، بل إنها من حيث لا تشعر وبفطرتها التي فطرها الله عليها، ينطلق ذكر الله على ألسنتها، وتتضرع إلى بارئها طلباً للنجاة من هذا الكرب العظيم، والخطب الجسيم، وتتعرى تلك النفس من كل القوى الخادعة والدوافع المغرية، وتتجرد من القدرات الزائفة والمثيرات الموهومة، وتعود إلى أصل فطرتها الصافية، التي فطرها الله عليها، فلا تجد إلا رحمته ملاذاً وملجأ؛ لأنه بعد سقوط تلك الحوائل والحواجز التي كانت تفصل بين النفس وخالقها، تتجه تلك النفس صوب بارئها، مخلصة له الدعاء، وطالبة منه النجاة.
وأغلب الذين وقعوا في مثل هذه المحن والكروب، وتضرعوا إلى الله مخلصين له الدعاء، نجدهم إذا كتب الله لهم النجاة، وعادوا سالمين إلى هذه الحياة، تستقيم مسيرتهم الإيمانية، وتذهب عنهم الأهواء والمغريات، وقد وصف القرآن حالهم بقوله: { فمنهم مقتصد }، و(المقتصد) هو الذي يبر بالوعد الذي عاهد الله عليه.
وثمة فريق من الذين كتب الله لهم النجاة، نجدهم بدل أن يشكروا نعمة الله على الحياة الجديدة التي منحهم إياها، نراهم يجحدون تلك النعمة، ويعدلون عن الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الإيمان به، والالتزام بشرعه، وينسون فضل الله عليهم.
فهما إذن صنفان من الناس: صنف شاكر مقتصد مدحه القرآن، وصنف جاحد منكر ذمه القرآن؛ فأما الصنف الأول، وهو المقتصد، فهو الذي يكون على طريقة مستقيمة، وصلاح في الحال، وثبات على الإيمان، لا يحمله الأمن والسلامة على النسيان والكفران، بل يظل ذاكراً لفضل الله، شاكراً لأنعمه، وإن لم يوف حق الله حق الوفاء بما أنعم الله عليه من النعم، والتي منها نعمة النجاة من الموت والغرق، من هنا سماه القرآن { مقتصد }.
وأما الصنف الثاني، وهو الجاحد، فهو الذي ينكر نعمة الله عليه بالنجاة بعد زوال الخطر، والعودة إلى بر السلامة، فكأنه لم يقع في ضيق، وكأنه لم يعاهد الله على الطاعة والوفاء. ومثل هذا الجحود بآيات الله تعالى لا يكون إلا ممن كان يتصف بصفة الغدر (الختار)، وصفة (الكفور) الشديد الكفر. ومثل هذه المبالغة الوصفية تليق بمن يجحد بآيات الله، وبمن يتنكر لفطرته السليمة، التي جعلته يخلص لربه الكريم في تلك اللحظات الحاسمة، التي عاشها بين الأعاصير والأمواج، ثم لا يلبث بعد النجاة أن يعود إلى كفره المبين.
طباعة
ارسال