عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبَّتان من حديد، من
ثُدِيِّهِمَا إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَتْ – أو وَفَرَتْ- على
جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لَزِقَتْ
كل حلقةٍ مكانها فهو يوسِّعها ولا تتَّسع». متفق عليه.
اللغة:
الجبة: الثوب الطويل. وفي رواية «جُنَّتان» من الجُنّة وهي الحِصن. وأطلقت
الجُبَّة على الدرع السابغ لكل الجسم لوجود القرينة وهي «من حديد».
ثُدِيّ: جمع ثَدْي.
تراقيها: جمع تَرْقوة، وهو العظم الناتئ في آخر العنق.
سبغت: غطَّت.
أو وفرت: هذا شك من الراوي أي الكلمتين قالها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ووفرت بمعنى: سبغت.
وتعفو: تغطي أثره. ومنه عفت الديار، إذا غطتها الرمال.
والمعنى ظاهر وهو أن الدرع في جسم البخيل يظل ثابتاً عند ترقوته فيصير
قيداً يربط يديه إلى عنقه.
المحتوى الفكري:
الصدقة تظل صاحبها يوم القيامة وتقي صاحبها من عذاب الله ومن نار جهنم.
وثمة جانب آخر مقابل للصدقة هي النفس الحريصة على المال وجمعه. فهذا دافع نفسي
يقاوم الدوافع التي تحض على دفع الصدقة، فهذا الوضع كائن بين إنسان يعطي وإنسان
أَلِفَ البخل حتى إذا ما أراد أن يمد يده بالبذل حجزها البخل بقيوده فلا يعطي
شيئاً.
هاتان الخصلتان خصلة الكرم وخصلة البخل ثم ما تتنازعه النفس من إعطاء ومنع
هذه الأمور المعنوية يصورها النبي صلى الله عليه وسلم في صورة حسية هي صورة إنسانين
قد استعدا للقتال وكل منهما يريد أن يقي نفسه بدرع يلبسه، فأما الأول فقد اتسعت
الدرع وغطت أنامله وسبغت حتى عفت – أي محت- آثاره. وأما البخيل فقد وقفت في مكانها
فبدلاً من أن تحميه أصبحت عائقاً له فلا يستطيع أن يتحرك فيها، فلو لم يلبسها لكان
خيراً له.
ذانك هما شأنا البخيل والكريم، يبرز كل منهما في صورة حسية بليغة الأثر في
هذا التشبيه التمثيلي. فهناك أولاً الكريم الذي أَلِفَ السخاء والبذل وامتداد اليد
بالإعطاء، ويقابله البخيل الذي لا يستطيع الحركة، وكذلك الكريم قد تحققت له
الوقاية بسخائه، وفي نفس الوقت البخيل عندما تنازعه نفسه وتدفعه للعطاء يمد يده
فلا تتسع الدرع أي أن البخل والشح قيّداه حتى أصبح حبيس شحه وبخله، فقد ظلت الدرع
في مكانها ولم تتسع على جسده.
فهذا الحديث أعطانا نوعاً بديعاً من التشبيه التصويري يبين غريزة الإنسان
لحب المال، فاختار صورة الجبة بأنها درع من حديد: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8].
وعبر بجبة الحديد عن المال لأن الإنسان يُعِدُّه ليتقي ما ينزل به من
الحاجات. والكريم استطاع أن يدفع عن نفسه النار كما قال عليه الصلاة والسلام:
«اتَّقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تَمرة».
وقد وفى الحديث معنى السَّبغ والستر والوقاية توفية كاملة إذ جعل الدرع
تغطي أنامله وتعفو أثره، ثم في هذا إشارة إلى محو الصدقة للخطايا لأنها بذلك تقطع
على العدو الطريق فلا يدركه، كذلك الصدقة تمنع العذاب فلا يدرك المتصدق، وكما قال
عليه الصلاة والسلام: «الصدقة تطفئ غضب الرب».
أما البخيل فقد لبس الدرع ومنع الخير مما جعله مقيداً لا ينجو من عذاب يوم
القيامة بل بالعكس فقد أصبحت عائقاً له.
وقد أراد البخيل أن يوسعها فلا تتسع وصوَّر الناحية النفسية تصويراً
قوياً، فالدرع لم تنفعه بل بقيت مكانها، كذلك بخله يجعله لا ينفق. وبذلك أصبحت
الدرع عائقاً له فلا يستطيع أن يدافع عن نفسه أيضاً.
وهكذا انتهت بنا الصورة البيانية في الحديث إلى قطعة فنية من التشبيه
والبيان وصور النتائج المادية من عذاب في يوم القيامة أو سلامة منه، ثم أكد هذه
المعاني بهذه الطريقة حتى استقرت في النفس عوامل الإيمان بحيث يتصور المسلم أن
الزكاة والصدقة منجىً له من عذاب يوم القيامة، فحب العيش غريزة موجودة في الإنسان.
وضرورة المحافظة على النفس أمر مستقر في نفس الإنسان ولكن تحقيق ذلك بالبذل في
وجوه الخير وعدم الإقتار والإمساك، بعكس حب المال الذي يتوهم بعض الناس أنه سر في
سعادة الإنسان، فإن الضن بالمال يؤدي إلى عكس المقصود، يؤدي إلى الهلاك بسبب هذا
المال نفسه. وهكذا أوصلنا الحديث إلى المطلوب عن طريق التسامي بميل الإنسان
الطبيعي إلى الحرص ليتحول إلى ميل للبذل والإحسان.
* إرشادات الحديث:
1- نفع الصدقة صاحبها بتخليصه من الأخطار، فهي بمنزلة جبة من حديد أي درع
يغطي جميع البدن حتى يخفي أصابعه بل رؤوس أصابعه فهي وقاية كاملة من الأخطار في
الآخرة، وسبب لطف الله بصاحبها في الدنيا كما ورد في الحديث: «الصدقة تطفئ غضب
الرب».
2- خطورة
البخل، ومنع الزكاة لأنه يعني انتشار الفقر، والفقر داعية المهالك في الدين
والدنيا «كاد الفقر أن يكون كفراً»، كما يؤدي إلى تخلف الأمة وزيادة خطر الأزمات
الاقتصادية. فصار المال سبب تلف صاحبه البخيل المانع لحقه، عوضاً عن أن يكون سبب
سعادته، كما يصور له الوسواس الخناس.
3- إن عمل الخير يعود على صاحبه بالخير، وعمل الشر يعود على صاحبه بالشر.
-
في ظلال الحديث النبوي: د. نور
الدين عتر.
-
روائع البيان في الأمثال
النبوية: محمد حسن.
-
الحكم والأمثال النبوية: سميح
عيسى.
-
صحيح مسلم بشرح النووي: الإمام
النووي.
طباعة
ارسال